رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هدى عبدالناصر تكتب: أن تكون ابن جمال عبدالناصر

هدي جمال عبدالناصر
هدي جمال عبدالناصر

صوته لم يفارقنى يومًا.. حتى شريط السينما الذى صوره لنا كأسرة ما زلت أحتفظ به داخل بيتى.. علمنى كل شىء بداية من قيادة السيارة ولعب الدومينو وحتى الحياة.. إنه بالنسبة لى إنسان من نوع خاص، لكنه كسائر الآباء حنون، عائلى بالدرجة الأولى.. جعل طفولتنا سعيدة.. فلم يفارقنا برغم مسئولياته وعشقه لمصر الأم الكبيرة.
داخل بيت منشية البكرى، عشنا كأسرة مصرية بسيطة، حياتها عادية رغم ما قد يغلقها من المظاهر غير العادية.. وكنت وإخوتى لا ندرك قيمة بعض الأمور، ودلالة بعض الأحداث الدائرة حولنا.. برغم أن وقت الأزمات التى مرت بمصر كانت تنعكس على بيتنا أيضًا وتتأثر الحياة بعض الشىء.. فكنا ونحن صغار لا ندخل على أبى وهو يعانى من أزمة ما أو متكدر من موقف ما، لا نتحدث معه ونحترم تأمله.
وفى حالة الفرح والنصر كان البيت يمتلئ بالسعادة، وأذكر أنه مع إعلان الوحدة مع سوريا كان وجه أبى يتهلل فرحًا.. وكان حديث المائدة وقت الغداء لا يخلو من الحكى عن الإنجاز وعن مدى سعادته به.
عايشنا أيضًا لحظات القلق الممزوج بالفرح. مثال ذلك شغلت حرب الاستنزاف جانبًا كبيرًا من مشاعرنا.. القلق يتزايد مع بداية كل عملية وينتهى بالفرح من نجاحها.. فأول دورية عبرت القناة كانت لها فرحة كبيرة.. وأول معركة نشبت معركة «رأس العش» ثم غرق المدمرة إيلات.
أمى كان عبدالناصر محور حياتها.. تزوجته فى ٢٩ يناير ١٩٤٤.. كانت من قبله وحيدة.. توفى والداها.. فكان هو أهلها.. بعد أن أنجبانى وأختى منى، رحل أبى إلى جبهة القتال ليشارك فى حرب فلسطين سنة ١٩٤٨.. ورغم الصعاب والقلق تحملت المسئولية طوال فترة الحرب.. وحتى بعد عودته سالمًا من الحرب لم يترك العمل الوطنى حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ والتى كانت فى البداية محفوفة بالمخاطر ونسبة نجاحها ضعيفة.. وهو الأمر المقلق جدًا.

كنا محظوظين جدًا.. نعمنا بطفولة سعيدة وهانئة فى ظل حنان أبى ووجوده معنا دائمًا. كان أبى حريصًا على وقت العائلة وقضاء الإجازات الصيفية وأيام الجُمع معنا برغم انشغاله بهموم الأمة والثورة، حتى أنه كان يملك من الصبر ما يجعله يجيب عن جميع أسئلتنا مهما بلغت. فكنا أنا وإخوتى نذهب إليه دائمًا بعد عودتنا من المدرسة نحكى له عن يومنا، عن أصدقائنا، وعن مدرستنا.. كان أبًا مثل كل الآباء حريصًا على دراستنا ويوقع لنا الشهادات المدرسية.. ومن يحصل منا على درجة مرتفعة كان يسارع إليه ليوقع شهادته أولًا. أما من يحصل على درجة منخفضة، فكان يضع شهادته بجوار سرير أبى ليقوم بتوقيعها قبل ذهابه للمدرسة خوفًا من عتابه، بل وكان يحضر باستمرار الحفلات المدرسية الخاصة بكل منا.
وأذكر أن زوجى حاول الاعتذار عن عدم حضور أول حفلة مدرسية لابنتى هالة، نظرًا لانشغاله، فنظرت له بدهشة وقلت له «أبى عبدالناصر كان حريصًا جدًا على مسائل الأسرة رغم انشغاله بهموم الأمة كلها.. فبماذا أنت مشغول؟»، وأعتقد أن أبى اهتم كثيرًا بعائلته نظرًا لحرمانه من ذلك الجو الأسرى. ففقد والدته عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره، وعاش فترة داخل مدرسة داخلية، ومن الطريف أيضًا أننا فى البداية عند التجهيز لمنزل منشية البكرى، اضطررنا للسكن داخل قصر الطاهرة.. الأمر الذى سبب لنا إزعاجًا كبيرًا.. كل واحد منا له غرفة كبيرة مما جعلنا نشعر بالفرقة، فافتقدنا بيتنا فى منشية البكرى الذى كان يحتوينا.. ورغم أنه ليس صغيرًا، إلا أنه كان مقسمًا، الدور الأول يضم الصالونات الخاصة باستقبال الضيوف والزائرين، أما الدور العلوى فهو خاص بنا، به غرفة للمعيشة وأخرى للطعام نجتمع داخلهما كأى أسرة عادية أمام تليفزيون واحد وهذا هو أهم مظهر من مظاهر الرباط الأسرى.

كان أبى رجلًا صعيديًا بالدرجة الأولى، لا يحب أن يقتحم أحد خصوصيات حياته ولا حياة أسرته أو يعكر صفوها.. كان المقربون منا قليلين جدًا حتى لا تقوم علاقتنا بالبشر على أساس مكانة أبى ولا تقوم على النفاق والخداع، بل على الصدق فقط، بعيدًا عن منصب والدى.
وكان شديد الحرص على تربيتنا لنكون كسائر أفراد الشعب.. فأدخلنا المدارس الحكومية العامة.. فدرست بمدرسة دار السلام الابتدائية، ثم سراى القبة الإعدادية، ثم القومية الثانوية بالعجوزة، ولا تزال صورنا داخل تلك المدارس حتى الآن.
ولم نكن نحضر أى اجتماعات مدرسية، كنا نحضرها فقط فى حالة وجود وفد أجنبى أو عربى يرافقه أطفال فقط، أو إذا طلب أحد رؤيتنا، وأذكر أن خروشوف لدى حضوره مصر كانت تصحبه ابنته، مما استدعى وجودنا معها، كذلك الرئيس اليوغوسلافى تيتو حضر ومعه أولاده، كذلك لم نكن نسافر مع أبى باستثناء مرتين فقط كانت إحداها إلى يوغوسلافيا.
كان يسمح لنا بحضور أعياد الثورة كل عام باستثناء خطاب ٢٣ يوليو لم يكن مسموحًا لنا حضورها، كنا نشاهد المظاهر الاحتفالية فى القاهرة والإسكندرية، كالعروض العسكرية صباح يوم الثالث والعشرين، وعرض الشباب فى استاد القاهرة.. ثم نسافر للإسكندرية لحضور احتفال وخطاب ٢٦ يوليو، بل قد حضرنا مرة واحدة مناورة عسكرية ضمن مظاهر الاحتفال.. ورغم كوننا أنا وإخوتى صغار السن لم يكن يوجه لنا أى محاذير أو إرشادات قبل الذهاب إلى أية احتفالية.. كان يترك لنا مطلق الحرية والتصرف على هوانا الطفولى.

كان عبدالناصر الرجل الثورى هادئ الطبع، وصوته خافتًا داخل المنزل، ولا ينهرنا أبدًا كان عقابه هو النظر إلينا بعينه فقط، ورغم قربنا منه لم يحمل أحد منا شخصيته، كل منا يحمل جزءًا أو صفة منه أو حتى لمحة صغيرة فقط، حتى أحفاده لم يرثوا منه الكثير وإن ظل داخلنا طوال الوقت، حتى إننى لدى رؤيتى الأفلام التى جسدت شخصية أبى لم أكن أجده داخلها.. ففرق شاسع بين الأصل والتقليد.
هواياته كانت متعددة، لكن كان التصوير والفوتوغرافيا هما هوايتاه المفضلتان.. فكان يعشق التصوير السينمائى والفوتوغرافى.. وحتى الآن أحتفظ بالأفلام الـ٣٥ ملى التى صورت لنا فى منزلنا وعلى شاطئ البحر.. وكان يعشق القراءة خاصة مجلة «الناشيونال جيوجرافيك» و«لايف» و«لوك»، لما تحتويه من صور تغذى هواية التصوير لديه، وكان يهتم كثيرًا بمجلة «المصور» و«الهلال».
علمنى قيادة السيارة أنا وأختى منى، وكان يلاعبنا خلال الإجازة الصيفية، ونحن فى برج العرب «الشطرنج» و«البينج بونج» بل وعلمنا «الدومينو».. كما كان يعشق الطبيعة والبحر والسباحة، كم من الآباء يعلمون أولادهم ويتفرغون لممارسة أحب الهوايات معهم؟!

فى بداية حياتى عملت معه داخل مكتب السكرتارية، فتعلمت مغذى العمل ومعنى الحياة وتعلمت كيف تصدر القرارات المصيرية، وكيف تتم الاتصالات الحرجة وقت الأزمة، واستفدت من حرصه الشديد على دراسة الموقف والاطلاع على جميع الدراسات، والانفتاح على نظم الحكم فى العالم والدساتير المكتوبة فى الغرب والشرق، كل ذلك خلال فترة زمنية سادت العالم فيها أفكار جديدة وحركات تحرر ومد ثورى وحرب باردة ونظم مختلفة للحكم.
ويكفى أن أبى كان زعيمًا استطاع أن يحرك القوى العظمى الكامنة داخل الشعب المصرى وعرف كيف يوظفها لصالح الأمة.. آمن بالأفراد البسطاء المهمشين وغير القادرين، عبر عن أحلامهم ومطالبهم، ولبى كل ما كان مطروحًا من مطالب قبل الثورة.. آمن بالشعب فآمن به الشعب كزعيم وقائد مسيرة.
كان مناضلًا يؤرقه العام وليس الخاص.. عايش الاحتلال الإنجليزى وخدم فى الجيش إيمانًا بدور الجيش فى القضاء على الفساد وتحرير الوطن من الاحتلال، وشارك فى حرب فلسطين عام ١٩٤٨، وفى حرب الفدائيين عام ١٩٥١ ويكفيه فخرًا قيامه بإصدار قرارى تأميم قناة السويس وبناء السد العالى. ولنعلم أن مصر كافحت طوال القرن الماضى من أجل استعادة دخل قناة السويس، فهو قرار مبنى على قصة كفاح طويلة، صدر فى أعقاب خروج القاعدة البريطانية من مصر، ليتحدى بذلك القوى الكبرى فى العالم.. إنه أبى عبدالناصر.