رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبناؤنا فى الغرب ومصريتهم فى القلب


بدأت علاقتى بالغرب لأول مرة عندما سافرت للدراسة فى شهر يوليو من عام 1969، وبعد أسبوع فى هولندا وصلت إلى واشنطن العاصمة مع أول أغسطس، حيث أمضيت شهراً بها، وفى أول ليلة سألت أحد الأمريكيين عن اسمه، علمت أن اسمه مارك، أى مرقس،

وتخيلت أن اسمه يشير إلى ديانته، فسألته عن أقرب كنيسة من الفندق، ولم أكمل السؤال حتى هاجمنى بسيل من السباب واللعنات للمتدينين والمصلين، وظننت أنى لم اسمع اسمه جيداً، فأردت التأكد من الاسم، فبدأ يلعن فى والديه اللذين أعطياه الاسم معقباً أنه لم يختر اسمه، وكانت صدمة بالنسبة لمصرى قادم من صعيد مصر إلى أمريكا، وما كنا نسمعه عنها من أنها بلاد التدين.

والتجربة الثانية كانت فى مدينة نيويورك حيث الكلية التى قبلتنى لدراسة الماجستير فى التربية، وكانت الكلية على بعد أمتار من مبنى الأمم المتحدة التى تقع فى حى مانهاتن، وكنا فى وقت العصارى نجلس على المقاعد أمام المبنى الشاهق ونتفرس فى وجوه المحيطين بنا، ونرهف السمع لعلنا نجد مصرياً أو عربياً، حيث كنا نعانى مرض الحنين، ولم يكن الاتصال بالوطن ميسوراً، إذ كان لابد من حجز موعد للمكالمة، وقد يستغرق الوقت ثلاثة أيام، وأذكر أن صديقاً طلب والدته فى مصر الجديدة، وأثناء الحديث نطق جملة باللغة الإنجليزية، فدخل الرقيب وحذر المتكلم قائلاً لقد طلبت أن تتكلم باللغة العربية، وسوف تقطع المكاملة لو كررت الحديث بغير العربية، أما الخطابات، فكانت تصلنا بعد أسابيع كما كانت رسائلنا تصل عائلاتنا بعد شهر أو أكثر، وفى الذهاب والعودة كانت تفتح الخطابات وعليها ملصق كتب عليه عبارة «فتح بمعرفة الرقيب».

أذكر أنه فى صباح أحد أيام الآحاد، وكنا وزوجتى نصلى فى الكنيسة الإنجيلية الكبيرة فى شارع رقم 5 بنيويورك، وكان الحضور فى حدود خمسة آلاف، وفى خروجنا سمعت من ينادى آخر باسم محمود، وكأننا وجدنا كنزاً، إنهما مصريان، وفى لحظات كنا قد تعارفنا واكتشفنا أنهما دخلا الكنيسة بحثاً عن مصرى قادم من مصر، لعله يروى ظمأ الاشتياق، وتعارفنا وتصادقنا، والصلة التى ربطتنا هى مصر، وبعد سنوات زاد عدد المهاجرين المصريين، وانتشروا فى طول الولايات وعرضها، بعد أن كان التركيز فى الجانب الشرقى من الولايات المتحدة فى نيوجرسى، حيث الإقامة الأرخص، ويمكن العمل فى نيويورك، حيث فرص العمل الأكثر، ثم بدأت حاجة الأقباط إلى كنيسة يمارسون فيها عبادتهم، حيث لا نظير لها فى الولايات المتحدة، وبنيت أو اشتريت أول الكنائيس فى نيويورك ونيوجرسى.

أما الإنجيليون فلم تكن الكنائس مشكلة، فالكنائس الإنجيلية منتشرة فى كل ركن من المدن الكبرى، إذ يصل عددهم إلى نحو 700 مليون نسمة فى العالم، وهم مع الكاثوليك يقترب عددهم إلى ثلث سكان العالم فى وقتنا الحالى، إلا أن المصريين الإنجيليين لم يستريحوا دون كنائس عربية فى الولايات الأمريكية ليتمكنوا من أن يشبعوا حنينهم إلى إخوتهم المصريين، وانتشرت الكنائس العربية التى نقلت التقاليد المصرية، وروت ظمأ الحنين إلى الوطن، ومعاً يتبادلون الزيارات والأطعمة المصرية حتى إن الأصدقاء من الأمريكيين يزورون المصريين، حيث المحشى من الكرنب والأرز المصرى، وحتى اليوم عندما نزور بعض الأصدقاء منهم يطلبون روشتة الأرز المصرى ويخزنونه فى ثلاجاتهم لوقت الأعياد ولو بعد ستة شهور قادمة.

إنها الأطعمة المصرية التى لها المذاق الخاص، أسألوا الذين وصلوا من أبنائنا إلى أعلى المراكز وسكنوا القصور، وركبوا أفضل السيارات، ومنهم من امتلك الطائرات، إلا أنهم لم ينقطعوا عن الوطن الأم، وفى الغربة يتآلف المصريون ويتحابون ويتجاورون ويتعاونون، مازلت فى زياراتى ولقائى مع المصريين هناك يجتمع المسلمون والمسيحيون، ويتبادلون الود والحب والصداقة القلبية، وليست كلمات المجاملة، فلا حاجة لسكان تلك البلاد أن يجتمعوا لمجرد الشكل أو المجاملة، فالوقت له قيمة ومكلف والمسافات متباعدة، ولكنهم عندما يأتون للترحيب، فالود الحقيقى والمحبة الحقيقية تجمع الناس معاً، ففى الغربة تختفى الفروق ويظهر اسم مصر واللغة العربية وأخبار الوطن الذى يعيش فينا، حتى إن كنا لا نعيش فيه، جرى إيه يا مصريين هل لابد من الاغتراب للاقتراب؟

إن دور المصريين فى بلاد الغربة لا يتوقف عند تقاربهم معاً، إنما يقومون بدور السفراء عن بلادهم، فعلاقاتهم بأبناء البلد الذى يعيشون فيه يضيف بعداً عميقاً فى معناه ومغزاه، فمصر من خلال أبنائها بدول الاغتراب تقدم نماذج من العلم والتقدم أمثال أحمد زويل ومجدى يعقوب والباز وعشرات أو مئات من الناجحين والفائقين فى شتى المجالات كالطب والهندسة وعلوم الفضاء، أما ما سمعناه مؤخراً أن المصريين فى الغرب يستقوون بالأجنبى فتلك قضية تحتاج إلى مناقشة، حتى لا تطلق الأقوال على عنانها ونسقط فى خطيئة التعميم أو التقويم ولنا فى هذا الموضوع حديث.