رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر .. خطوة للأمام وعشر خطوات للوراء


إن أكثر ما يثير القلق فى كل ذلك أننا لا ندرى من الذى يحدد شعارات وتوجهات وحركة الانتفاضة الثورية؟ من الذى بلور ذات يوم شعار إسقاط حكومة الجنزورى؟

فى عام 1902 ظهرت فى مصر أول ترجمة مطبوعة لمسرحية شكسبير «هاملت»، على غلاف الكتاب برز اسم المترجم «طانيوس أفندى عبده الكاتب المجيد» وكانت صفة الكاتب المجيد الملحقة بالاسم لتعريف القراء بنفسه. وطانيوس أفندى أديب وصحفى لبنانى كان من رعيل المنورين الأوائل فى مصر، وكان قد ترجم المسرحية قبل طباعتها بخمسة أعوام لتقديمها على المسرح فى عام 1902، وحين عرضت المسرحية لاحظ طانيوس أفندى عبده الاستياء الذى عم بين المتفرجين فى الصالة وغضبهم من الظلم الذى تعرض له هاملت وموته فى نهاية العمل! وقرر بينه وبين نفسه أن لشكسبير الحق فى أن يؤلف ما يشاء لكن هناك، أما فى مصر فإن طانيوس أدرى بأحوالها، وكل واحد بحريته لكن فى بلده وفى حدوده، وشكسبير على العين والرأس بس ما يتنططش بقى، وهكذا قام طانيوس أفندى بتعديل نهاية المسرحية وجعل هاملت يواصل حياته بل وينتزع عرش والده ليهدأ المتفرجون بانتصار العدالة. على هذا النحو ألف طانيوس أفندى نهاية مختلفة تماما للعمل الشهير، ولم يكن كاتبنا المجيد عابر طريق فى الثقافة، فقد كان مترجما عريقا أصدر سلسلة «الروايات القصصية» وظهر منها أربعون عددا، وجريدة «الشرق اليومية» ومجلة «الراوى» الأسبوعية وقدم أعمالا عديدة للمسرح، لكنه بتأليفه تلك النهاية الجديدة لهاملت كان يسقط على العمل أمانى الجمهور البسيط وربما أمنيته هو أيضا بإنصاف المظلوم. حادثة أخرى حين بدأت الثقافة العربية فى عشرينيات القرن الماضى تتعرف إلى الفكر الاشتراكى بفضل رواد أوائل مثل شبلى شميل ونقولا حداد وسلامة موسى، وأخذ مثقفون عرب فى ترجمة الكتب الماركسية من الإنجليزية إلى العربية. وكان من ضمن الأعمال التى ترجموها حينذاك مقال كتبه لينين زعيم الثورة البلشفية بعنوان «خطوة للأمام .. خطوتان للخلف»، تناول فيه ظاهرة الانقسام داخل الحزب الواحد. وحين قرأ المترجم عنوان المقال ألح عليه سؤال: إذا كانت الثورة - حسب العنوان - تتقدم خطوة واحدة وتتراجع خطوتين، فلابد أنها فى المحصلة النهائية ستتراجع! وظن صاحبنا أن عنوان الطبعة الإنجليزية تشويه متعمد لأفكار لينين الثورى والذى يستحيل بداهة أن ينادى بهزيمة الثورة فى نهاية المطاف! من ثم جعل المترجم للتقدم خطوتين ونشر المقال بعنوان «خطوتان للأمام .. خطوة للخلف»! لتنتصر الثورة ! مرة أخرى يسقط المترجم تصوره وأمانيه على الواقع. على أى حال تم استدراك تلك الأخطاء لاحقا، عندما ظهرت «هاملت» فى ترجمة دقيقة لشاعر القطرين خليل مطران، وعندما نشرت ترجمة مقال لينين بحذف الخطوة الزائدة من تقدم الثورة ! وبقيت لنا من تلك الأعمال الأدبية والسياسية قيمتها الحقيقية وما تطرحه من أسئلة. بقى من هاملت حيرته وتساؤلاته الفلسفية العميقة، وبقى من لينين ملاحظته حول أن التقدم خطوة والتراجع خطوتين ظاهرة نلمسها «فى حياة الأفراد وفى تاريخ الأمم .. وأن الشعب رغم جميع التعرجات والخطوات إلى الوراء سيرص صفوفه أكثر فأكثر». وعندما يدور الحديث عن ثورة يناير التى أسميناها انتفاضة أوانتفاضة يناير التى أسميناها ثورة، فإن النظرة الأعم والأشمل خلال الحديث هى أن ثمة تعرجات وخطوات للوراء لكن مصر لن تلبث بعدها أن تندفع إلى الأمام نحو أهدافها. وخلال ذلك الجدل أسأل نفسى فى صمت: هل أن ما تشهده مصر هو خطوات مؤقتة للوراء.. استعدادا للتقدم؟ أم أنها خطوات للخلف فى اتجاه ثابت نحو التراجع؟ بمعيار التفاؤل يمكننا أن نقول إن وصول الإخوان للحكم خطوة للخلف، وأن الغضب الشعبى على حكمهم خطوتين للأمام. لكن هناك الكثير من الظواهر التى تثير القلق، على سبيل المثال كيف يمكن لانتفاضة – ثورة أن تبدأ لنحو عام تقريبا متخذة شعار «إسقاط حكم العسكر» وترتد منادية بحكم الجيش مرة أخرى؟. كيف يمكن لانتفاضة – ثورة أن تهب لخلع رأس الطغيان وتنتهى بتكريس رأس طغيان آخر؟ كيف يمكن لحركة شعبية أن تثور تحت شعار الحرية فتحصد الاستبداد مجددا؟ كيف يمكن لحركة شعبية تبدأ بالدفاع عن الوطن أن تنتهى بتلك المساحات الشاسعة من الفوضى التى تهدد الدولة والجيش بالتفكك لتصبح مصر لقمة سائغة لأمريكا وإسرائيل؟ كيف يمكن لانتفاضة – ثورة أن تقوم لتطوير الدستور وانتزاع المزيد من الحريات فتنتهى بتقليص الحريات وبدستور يكرس الفاشية؟ . كيف يمكن لحركة شعبية تنتفض على الفقر والتخلف أن تمضى لمزيد من الفقر والتخلف؟ هل يمكن النظر إلى كل ذلك باعتباره «خطوتين للخلف» تندفع بعدها الثورة إلى الأمام؟ أم أن ذلك التراجع سمة أصيلة لتلك الانتفاضة لن يعقبها تقدم أو خطوة للأمام؟. هل أن كل ما نفعله هو أننا نسقط أمنياتنا على الواقع ونغير النهاية على الورق بينما تمضى القصة بنهايتها الحقيقية فى اتجاه آخر؟

إن أكثر ما يثير القلق فى كل ذلك أننا لا ندرى من الذى يحدد شعارات وتوجهات وحركة الانتفاضة الثورية؟ من الذى بلور ذات يوم شعار إسقاط حكومة الجنزورى ليحل بدلا منه عصام شرف؟ من الذى طالب بإسقاط حكم العسكر لينادى الآن بعودة العسكر؟ من الذى رفع الآن ، وكيف، وبأى آلية سياسية، شعار العصيان المدنى؟ وإلى أى شعار آخر سيقودنا لاحقا؟. فى كل ذلك لم يؤد التراجع إلى خطوة للأمام، بل إلى مزيد من التراجع: من الجنزورى لعصام شرف وصولا إلى هشام قنديل. ومن مبارك وصولا إلى مرسى، ومن هامش حريات إلى قبضة فاشية مقنعة بالدين، ومن دستور سيئ إلى الدستور الأسوأ. هل أن كل ذلك التراجع أمر من صميم الثورة التى لم تبخل بالدماء وبخلت بتوجه اجتماعى واقتصادى حاسم؟ هل أن كل ذلك التراجع من صميم انتفاضة بذل أبناؤها لأجلها أرواحهم بدون أن تبذل الجهود اللازمة لتنظيم حركتها؟

أظن أن أول الدروس وأكثرها وضوحا أن الثورة الانتفاضة التى تدور فى فلك الإصلاح السياسى – بعيدا عن المطالب الاجتماعية –لا تحصد فى نهاية المطاف حتى الإصلاح السياسى، وأن الثورة الانتفاضة التى تهب من أجل الديمقراطية بمعزل عن برنامج اقتصادى ووطنى، لاتحصد حتى الديمقراطية. كانت الشعارات الأساسية ليناير هى الإطاحة برأس النظام، وتعديل الدستور، والانتخابات النزيهة، وبرلمان يمثل الشعب، ولأن كل تلك الأدوات كانت منفصلة عن علاج مأساة الفقر والتفاوت الصارخ فى الدخول، والبطالة، والتبعية، وأزمة السكن، والعلاج، فإن الثورة لم تضع يدها حتى على تلك الأدوات. وعجزت القوى المستنيرة، الوطنية، عن تشكيل مجلس شعبى ووطنى لقيادة الثورة، وعجزت حتى عن التنسيق فيما بينها خلال ردود أفعالها على حكم الإخوان، وظلت شعارات مثل «عيش . حرية. عدالة اجتماعية» فى حدود الشعارات العامة المطاطة التى افتقدت أى قوة أو نفوذ فى الواقع الفعلى. ولا يكفى هنا تكرار أن «الثورة مستمرة»، لأن تلك العبارة تصبح خالية من أى معنى دون العمل من أجل برنامج يضمن استمرارية تلك الثورة – الانتفاضة. لذلك يطرح د. رءوف حامد مبادرة جديدة ينادى فيها بضرورة بلورة مؤسسات الثورة، وضرورة الوصول إلى جماعية القرار الوطنى لمفكريها. هذا أو أننا سنظل نسقط أمنياتنا على الواقع، ونرى فى خيالنا أن «هاملت» مستمر يواصل الحياة، وأنه انتزع عرش والده وأن العدالة قد انتصرت، بينما تمضى المسرحية الحقيقية فى اتجاه آخر، أو أننا نكتب «خطوتان إلى الأمام» لأن هذا ما نتمناه.

■ كاتب وأديب