رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رؤوس الفن المقطوعة .. أم كلثوم وأبو العلاء المعرى


لا أحد سيمنع الفن، لا أحد سيوقفه، لا أحد سيشل يديه عن قطف أزهار الربيع، ويظل الصوت هادرا متدفقا بقوة والتياع «أنا الشعب نارى تبيد الطغاة»!

فى المنصورة أخفوا رأس تمثال أم كلثوم بطرحة. هذا الرأس الذى أخفوه هو الرأس الذى أنشد «أصبح عندى الآن بندقية» وجدد بها عزيمة الكفاح. هو الرأس الذى مشى لهيبا يخترق الماضى إلى المستقبل «أنا الشعب نارى تبيد الطغاة. أنا الموت فى كل شبر إذا عدوك يامصر لاحت خطاه». هو الرأس الذى روى الروح بحب مصر، لأنها «فى خاطرى وفى فمى». والوجه الذى غطوه وجه فلاحة مصرية بكت عيناه على نكسة 67، وانشغل بجمع التبرعات للمجهود الحربى متضرعا لله عز وجل أن ينصر أم الدنيا، بينما كانت رءوس بعض الشيوخ محنية تشكر على الهزيمة التى حاقت بنا! وبينما هم يغطون رأس أم كلثوم، كان أتباع النهج ذاته فى سوريا يتقدمون إلى مدينة معرة النعمان ويقطعون رأس النصب التذكارى للشاعر أبى العلاء المعرى. ونسمع من شاشات التليفزيون من يتوعدنا جهارا نهارا بنسف الأهرامات وأبى الهول.

أتباع النهج ذاته فجروا من قبل ، فى عام 2005 بأفغانستان تمثالين لبوذا منحوتين على منحدرات وادى باميان يعود تاريخهما إلى القرن السادس قبل الميلاد. وبعد ذلك بسنة فى 21 مارس 2006 أصدر المفتى د.على جمعة فتوى بتحريم التماثيل وتحريم تزيين المنازل بها، وجاءت فتوى التحريم تلك بعد مرور أكثر من مائة عام على فتوى الإمام محمد عبده التى أباحت الفنون من وجهة نظر الدين الإسلامى.

والموضوع أبعد من نسف التماثيل والنصب التذكارية أو إخفاء رءوسها، لأن أصحاب هذا النظرة يمدونها لتشمل تحريم جميع أشكال التعبير الفنى من تصوير ونحت وأدب وموسيقى ومسرح وسينما. وهذا يعنى – من ضمن ما يعنى – إهدار كل توثيق بصرى وسماعى لثورة 25 يناير، وكل توثيق مماثل لتاريخ الشعب المصرى وحياته الاجتماعية، وثوراته، بل وإهدار تاريخ الفن الإسلامى ذاته الحافل بالكثير من رسوم الطيور والحيوانات فى عصور سلاطين بنى عثمان التى تملأ متاحف الفن الإسلامى فى العالم.

ومن ردم رؤوس الغناء إلى قطع أعناق الشعراء ثمة نظرة واحدة ترى أن كل أشكال التعبير الفنى إجمالا حرام مستنكر، وقد توحشت تلك النظرة إلى حد المطالبة بوقف تدريس رواية الأيام لـ«طه حسين» فى المدارس لأنها تنتقد الأزهريين، وإهدار دماء عشرات الكتاب المصريين كما فعل الكاتب السعودى سعيد الغامدى عام 2003 فى كتابه «الانحراف العقدى فى أدب الحداثة» حين كفر قاسم أمين وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وعبدالرحمن الخميسى وأحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوى وأمل دنقل وغيرهم. ويتصور أصحاب تلك النظرة أنهم يلتزمون بالدين الإسلامى حين يخلعون من الحياة سر بهجتها وتدفقها.

ومنذ أكثر من مائة عام ظهر فى مصر شيخ عظيم هو الإمام محمد عبده الذى نفى إلى الخارج لتعاطفه مع الثورة العرابية حتى صدرت الأوامر بالعفو عنه بعد ست سنوات فعاد إلى مصر، وأصبح بعد زمن مفتى الديار. وكان أول من أصدر فتوى فى حينه بجواز تعلم «العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافية» وكانت تلك العلوم الحديثة محرمة لا تدرس فى الأزهر ذلك الوقت. وقبل وفاته بعامين فى سنة 1903أصدر محمد عبده فتوى خاصة بالفنون تضمنها كتاب صادر عام 1922 لأحمد يوسف أحمد بعنوان «الفنون الجميلة قديما وحديثا »، ثم عرضها عباس العقاد بنص كلمات المفتى فى كتابه «عبقرى الإصلاح والتعليم الأستاذ الإمام محمد عبده» الذى صدر عام 1963 فى سلسلة أعلام العرب. ويقول العقاد «كان الرأى الشائع عن النحت والتصوير أنهما حرام مستنكر وكان المتعلمون العصريون أنفسهم يحتقرون هذه الفنون ولا ينظرون إليها نظرة جدية.. وقد خلا الشرق العربى من مدرسة واحدة لهذه الفنون، لكن محمد عبده المفتى كان يكتب يومئذ لينوه بها ويفسر معنى الإقبال عليها بين الغربيين بأنها عندهم كالشعر عندنا، وأنها لغة نفسية تفرق فى تعبيراتها بين أدق المعانى الشعرية». يقول محمد عبده إذن أنه إذا كان الشعر ديوان وسجل للحياة العربية، فإن النحت والتصوير فى الغرب ديوان وسجل للحياة عندهم. ويفسر الإمام ذلك بقوله «إذا كنت تدرى السبب فى حفظ سلفك للشعر وضبطه فى دواوينه والمبالغة فى تحريره أمكنك أن تعرف السبب فى محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل». فإن الرسم ضرب من الشعر الذى يرى ولا يسمع. وإن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص فى الشئون المختلفة ، ومن أحوال الجماعات فى المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. وإذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك. وإذا دعتك نفسك لتحقيق الاستعارة المصرحة فى قولك : رأيت أسدا – تقصد رأيت رجلا شجاعا - فانظر إلى صورة أبى الهول بجانب الهرم الكبير ترى الرجل أسدا أو الأسد رجلا. فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم فى الحقيقة وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها». هذا هو موقف الإمام المصلح الكبير محمد عبده الذى قدر أن الرسوم والتماثيل «شعر ساكت» وياله من تعبير! ولا يكتفى الإمام بتفسير أهمية تلك الفنون كسجل للانفعالات والهيئات والأحوال البشرية، بل يمضى إلى طرح السؤال الأهم «ما حكم هذه الصورة فى الشريعة الإسلامية؟». ويجيب محمد عبده على سؤاله «إذا كان القصد منها «أى من الصور والتماثيل» ما ذكر من تصوير هيئات البشر فى انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية – فهل هذا حرام أو جائز؟» ويقدر الإمام أن عبادة هذه التماثيل أو الصور كما كان يحدث فيما مضى حرام، لكن بانقضاء الزمن واختفاء الرابطة بين التماثيل والصور وبين العبادات فإن الرسم أو النحت يصبح جائزا. ويوضح محمد عبده ذلك قائلا “ أقول لك إن الراسم قد رسم والفائدة محققة لانزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محا من الأذهان. فإما أن تفهم الحكم من نفسك أو ترفع سؤالا إلى المفتى وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون فالذى يغلب على ظنى أنه سيقول لك أن الحديث جاء فى أيام الوثنية وكانت الصور تتخذ فى ذلك العهد لسببين: الأول اللهو، والثانى التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين. فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمثابة تصوير النبات والشجر فى المصنوعات. وبالجملة يغلب على ظنى أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين». هذه هى فتوى عبقرى الإصلاح الإمام محمد عبده بشأن الفن. بهذه الروح أشاع الإمام الاستنارة وفتح الأبواب على مصراعيها لفهم الإسلام فهما صحيحا، وبهذه الروح السمحة نفسها كان يرى أن كاتبا عظيما مسيحيا مثل ليف تولستوى نصير للحق، فبعث إليه برسالة بالفرنسية يقول له فيها «كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء، ومددا من عنايته للفقراء»!..لا أحد سيمنع الفن، لا أحد سيوقفه، لا أحد سيشل يديه عن قطف أزهار الربيع، ويظل الصوت هادرا متدفقا بقوة والتياع «أنا الشعب نارى تبيد الطغاة»!

■ كاتب وأديب