رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العدالة الثقافية




نتحدث كثيرًا عن المواطنة، ومعنى المواطنة، وترسيخ مفهوم وقيَّم المواطنة، ويتم التركيز كثيرًا على الحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية دون الالتفات إلى تحقيق مبدأ العدالة الثقافية، ونقصد به الاهتمام بتقديم الخدمات الثقافية، فضلاً عن عدالة توزيع هذه الخدمات على ربوع الوطن دون تمييز عرقى أو نوعى أو إيثار للعاصمة ـ أو لإقليمٍ بذاته ـ عند تقديم هذه الخدمات.



ويتردد الآن كثيرًا شعار «التعليم والثقافة فى مواجهة الإرهاب»، وهو فى الحقيقة شعار غريب فى مضمونه؛ هل ننتظر حتى حدوث التطرف والإرهاب لنواجهه بالثقافة والتعليم؟ أم أن الثقافة والتعليم هما من صميم الحاجات الحياتية للمواطن، والتقصير فى تقديم هذه الخدمات هو الذى يولد التطرف والإرهاب؟ كما أن إهمال العدالة الثقافية هو أكبر ضربة يمكن توجيهها لمفهوم المواطنة.

دارت كل هذه الأسئلة فى ذهنى وأنا فى طريقى من عَمان إلى مدينة الكرك فى الجنوب الأردنى، بمناسبة إحياء برنامج «أيام الكرك الثقافية». والكرك لمن لا يعرفها مدينة قديمة فى الأردن على طريق الجنوب، اشتهرت بقلعتها التاريخية التى تتحكم فى طريق القوافل التجارية الممتد بين الشام والجزيرة العربية، والشام ومصر أيضًا. كما اشتهرت الكرك بروح التسامح بين سكانها من المسلمين والمسيحيين فى نموذج تُضرب به الأمثال حتى الآن.

لكن مدينة الكرك، ومحافظة الكرك عمومًا، حل بها ما حل بالكثير من الأقاليم البعيدة عن العاصمة فى عالمنا العربى، من سوء توزيع الخدمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما يتبع ذلك من تسرب السلفية الوهابية لتجد لها موضع قدم، لتتغير رويدًا رويدًا روح التسامح المعهود فى الكرك. وتستيقظ الكرك قبيل أعياد الكريسماس فى ديسمبر 2016 على حادثة غير معهودة فى تاريخها، حيث احتل بعض الإرهابيين قلعة الكرك وقاموا بإطلاق النار على شرطة القلعة، والسياح القليلين الذين يزورون المكان.

واهتز الأردن كله لهذا الحدث الجلل، الذى أثار الانتباه إلى مشكلة العدالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى القصور الواضح فى توزيع الخدمات بين العاصمة والأقاليم، لا سيما الجنوب، وهو ما جعلنى أفكر كثيرًا فى هذه الظاهرة وأقارنها مع أوضاع الصعيد لدينا.

والجديد بالنسبة لمفهوم العدالة الثقافية أن المجتمع المدنى أدرك أن تحقيق مفهوم العدالة الثقافية ليس مهمة الدولة وحدها، ولكن لا بُد من شراكة المجتمع المدنى فى هذا الشأن، إذا كنا نريد فعلاً السير على درب المواطنة الحقيقية. من هنا قامت مؤسسة عبدالحميد شومان بتنظيم «أيام الكرك الثقافية» فى محاولة للخروج من أسر العاصمة، محور الأنشطة الثقافية والفنية، إلى الأقاليم المحرومة من الخدمات الثقافية. فكانت الأمسيات فى قلب قلعة الكرك، التى شهدت منذ أسابيع قليلة الأحداث الإرهابية المؤسفة.

ومؤسسة شومان هى نموذج حى وناجح لدور المجتمع المدنى فى الشأن الثقافي، إذ هى مبادرة من أحد أكبر البنوك العربية لإنشاء مؤسسة ثقافية، وتقديم وديعة مالية لتوفير الدعم المالى لها، دون التدخل فى سياستها الثقافية، التى يديرها نخبة من كبار المثقفين، وهى تجربة جعلتنى أستعيد تاريخ بنك مصر بعد ثورة 1919 وإدراكه أهمية الثقافة فى إرساء قواعد القومية المصرية وتأسيسه استوديو مصر، فضلاً عن دعمه للثقافة بوجه عام.

هل تستفيد البنوك والمؤسسات الاقتصادية المصرية من هذه التجربة التاريخية، ليسهم المجتمع المدنى بحق فى عودة الروح للثقافة المصرية؟ وهل نخرج من شرنقة العاصمة لإرساء قواعد العدالة الثقافية تأكيدًا لمفهوم المواطنة؟