رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التى فى خاطرى


كنت قد رأيت أحمد شوقى، يجلس فى خيلاء، ويسألنى من أنت؟، فقلت: جئت ضمن وفود الشرق لأباعيك أميرا. فسألنى: ما الذى دفعك لذلك؟، فأنشدت: «مولاى وروحى فى يده.. قد ضيعها، سلمت يده». قبل أن أنهى حديثى، سمعت صوت عبدالوهاب وعوده يرد على ما قلت، ويغنى: «قول لى عملك إيه قلبى.. قلبى اللى أنت ناسيه قول لى».

سرت فوجدت لوحة كبيرة لـ «بنات بحرى»، فاندهشت.. لأننى شعرت بأنهن من ضيعن روح شوقى، وجعلن عبدالوهاب يتودد لقلوبهن، لكن امرأة همست فى أذنى بأن اللوحة للفنان محمود سعيد.

جلست مفترشًا الأرض، أتساءل أين أنا؟، وعبدالحليم يغنى: «كيف جئت؟، كيف أبصرت طريقى.. لست أدرى». ثم رأيت وجها مبتسمًا فى أبوة، حزينًا فى كبرياء، نظر إلى فى حنو، واصطحبنى إلى استديو تصوير سينمائى، رأيته عاشقًا ولهانَ: «علشانك انتى أنكوى بالنار والقح جتتى». خفت كثيرًا عليه، لأننى أعلم أن ليلى مراد لا تحبه، فنزلت دمعة فرضت نفسها على وجهى، لكن يدًا حانية مسحت دموعى، فإذا بها يد فاتن حمامة.. خجلت من نفسى، فابتَسمت وأجلستنى مع «الأفواه» التى وهبتها حياتها، كان الشجن يملؤنى، بينما شادية تبكينى «يا عينى يا عينى يا عينى ع الولد».

الناس أحوال، والأحوال أبواب مغلقة. وقفت أمام باب المحبة، فوجدت أبياتًا من الشعر مكتوبة عليه، «باحبها بحب وبرقة وعلى استحياء» ممهورة بتوقيع صلاح جاهين، ضحكت حتى شعرت بالأرض تهتز من تحتى، وتغنى «الأرض بتتكلم عربى» وهى تطرب من كلمات فؤاد حداد. طرقت الباب، سمعت صوت امرأة داخل البيت تقول: «آ.. با.. ى ما مجلّع قوى يا عبد الرحمان.. طب ده انا ليّا ستّ سنين مزروعة فى ظهر الباب. لم طلّوا علينا أحبة ولا أغراب».. فربت سيد حجاب على كتفها وقال: «بندق بوابة الحياة بالإيدين.. قومى افتحى لأولادك الطيبين». بجوار الباب، وجدت كتابًا عنوانه «مسرحية سكة السلامة»، تفاءلت بالمعنى، وقررت استكمال الرحلة، رحلت لأستقل قطارًا فدخلت شاشة كبيرة فى آخرها ملصق فيلم «باب الحديد»، دخلت منه فوجدت قطارًا تطل منه هند رستم فى دلال، تحرك القطار بنا، وفريد الأطرش يغنى لها «يا مقبل يوم وليلة.. تطوى السكة الطويلة.. ودينى بلد المحبوب»، تركت القطار حتى بلغت نهرًا تجلس على جانبه فتاة جميلة، ينساب شعرها فتعكس المياه جماله، مدت يدها لى فى رقة، فاقتربت منها وهى تقرأ رواية عنوانها «واحة الغروب» وأسفل العنوان وجدت اسم «بهاء طاهر»، سألتها من يكون هذا الاسم؟، ضحكت وأشارت إلى حارة صغيرة، دخلتها فرأيت فى صدرها بوابة كبيرة، عليها هذا البيت للنبلاء: «طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ»، نظرت إلى البيت، وكلما رفعت نظرى لأرى نهاية ارتفاعه، رأيته يعلو، ويرتفع، دون توقف.

«أين منى مجلس أنت به.. فتنة تمت سناء وسنا؟»، بل «أين جهلى ومراحى وأنا غض غرير؟»، أدركت نجاة الصغيرة ما أنا فيها، وأشفقت علىّ «أيظن أنى لعبة بيديه.. أنا لا أفكر فى الرجوع إليه»، لكن عينى عمر الشريف أنستانى ما أنا فيه.. كنت قد أفقت من غفوتى، وكوكب الشرق تغنى «أيها الساهر تغفو.. تذكر العهد وتصحو وإذا ما التأم جرح .. جدّ بالتذكار جرحُ.. فتعلّم كيف تنسى.. وتعلّم كيف تمحو». لكننى لم أتعلم يا سيدتى.

الأحلام باب الهروب الأخير، وما بين أيدينا كفيلُ بليالٍ لا تنتهى من البهجة، يبدو أن النوم صار أفضل بكثير من اليقظة، والسير فى دروب الخيال، أنقى من أشواك شوارع الواقع.. كل هؤلاء التقيتهم فى منام واحد، وفقدتهم فى صباح واحد..

لابد من آفاق للأمل، وشرايين جديدة للحياة، الحياة التى سأحياها فى الليلة المقبلة، وأنا أقرأ تعويذة «مصر التى فى خاطرى».. لأستكمل متعتى بمن توجوا مصر بخواطرهم.