رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكيل والميزان «2-2»


عندما نتحدث عن الكيل والميزان فإن الحديث هنا- كما يقول العلماء- لا يخصُّ الكيْل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة فى حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتى تُقدّر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتُقاسُ بها الأشياء كُلٌّ على حَسبه، فالكتاب مثلاً يُقَاس بالسنتيمتر، والحجرة تُقَاس بالمتر، أما الطريق فيُقاس بالكيلومتر وهكذا.

إذن: فالتقدير الطُّولى يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشىء الذى نقيسه. هذا فى الطوليات، أما فى المساحات، فيأتى الطول والعرض، وفى الأحجام: الطول والعرض والارتفاع. وفى الكُتَل يأتى الميزان.

إذن: فالحياة محكومة فى تقديرات الأشياء بالكيْل الذى يُبيِّن الأحجام، وبالميزان الذى يُبيّن الكتلة؛ لأن الكيْل لا دخلَ له فى الكتلة، إنما الكتلة تُعرف بالميزان، بدليل أن كيلو القطن مثلاً أكبر بكثير من كيلو الحديد «طبعا فى الحجم».

ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً؛ لذلك، يقول تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ..» «الإسراء: 35» يعنى: أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص» انتهى النقل.. وأقول وهذا الوفاء بالكيل هو العدل ذاته، لأن الإنسان يفى بكل شىء.

ولذلك لا يجوز أن يحقد الفقير على الغنى، طالما أن غِنَاه ثمرة عمله وكَدِّه ونتيجة سعيه، وطالما أنه يسير فى ماله سَيْراً معتدلاً ويؤدى ما عليه من حقوق للمجتمع، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات ومواهب، وبكل ما لديه من طموحات الحياة؛ لأن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته شاء أم أبى. فدَعْه يجتهد، وإنْ كان اجتهاده فى الظاهر لنفسه، فإنه فى الحقيقة يعود عليك أيضاً. والخير فى المجتمع تعود آثاره على الجميع.لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبنى مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً، فكم من العمال والصناع، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع؟ إن الغنى لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قُوتاً فى بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء. هذا ما يراه كثير من العلماء والفقهاء.

وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة، وسلامة الحركة فيها، يقول تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ..» «الإسراء: 35»..ويقول الله تعالى فى آية أخرى:

«وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» «المطففين: 1-3».. ومعنى المطففين الذين يزيدون، وهؤلاء إذا اكتالوا على الناس، أى: أخذوا منهم، أخذوا حَقَّهم وافياً، وهذا لا لَوْم عليه، وإنما اللوم على أولئك الذين يسعون إلى السرقة أو الغش أو تخسير الميزان أيا كان نوع هذا الميزان حتى لو كان مقالاً أو حديثًا إذاعيًا أو تلفازيًا عند الحكم على الأشياء كلها أو حتى التاريخ: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» «المطففين: 3».

أى: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم «يُخْسِرُونَ» أى: ينقصون المكيال أو المقدار المعطى للآخرين. هذا هو موضع الذمِّ ومجال اللوْم فى الآية؛ لأن الإنسان لا يُلام على أنه استوفى حَقَّه، بل يُلام على أنه لم يُسَوِّ بينه وبين الآخرين، ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أنْ يُعاملوه به. وأن يحب للناس ما يحب لنفسه.

ونلاحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون فى الكَيْل والميزان فحسب، لكنه أيضًا فى السعر، فالبائع الذى ينقصك الكيلو عشرين جراماً، مثلاً فقد بخسَك فى الوزن، وطفَّف عليك فى الثمن أيضًا..وفى تفسير الطبرى نقرأ الآتى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا «35».

يقول تعالى ذكره: «وَ» قضى أن «أوْفُوا الكَيْلَ» للناس «إِذَا كِلْتُمْ» لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسُوهم «وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ» يقول: وقَضَى أن يكون الميزان أيضًا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذى لا اعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة. وقد ذكر بعض أهل التأويل فى معنى القسطاس، أنه القبان. أقول: وهذا الميزان الذى كانوا يزنون به قنطار القطن.

وقد جاء فى الحديث، حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا الحسن بن ذكوان، عن الحسن «وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ» قال: القَبَّان..وقال آخرون: هو العدل بالرومية. وقال آخرون: هو الميزان صغر أم كبر؛ وفيه لغتان: القِسطاس بكسر القاف، والقُسطاس بضمها، مثل القِرطاس والقُرطاس؛ وبالكسر يقرأ عامَّة قرّاء أهل الكوفة، وبالضمّ يقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفيين، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لأنهما لغتان مشهورتان، وقراءتان مستفيضتان فى قرّاء الأمصار.

وفى الكلام الطيب، نقرأ الأمر بالوفاء فى الكيل وعدم التطفيف .. وقد أمر الله تعالى - كما جاء فى التفاسير- بالوفاء فى الكيل، والأمر بالشىء نهى عن ضده، فضد الوفاء التطفيف والبخس، قال تعالى : «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» «الأنعام، الآية: 152». قال الطبرى رحمه الله تحت الآية : يقول تعالى ذكره: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ». يقول : لا تبخسوا الناس الكيل إذا كلتموهم والوزن إذا وزنتموهم، ولكن أوفوهم حقوقهم، وإيفاؤهم ذلك إعطاؤهم حقوقهم تامة بالقسط يعنى بالعدل «كما فى تفسيره». وقال القرطبي: قوله تعالى : «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ...» العدل «كما فى تفسيره » ومما يدل على ذلك قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» «الإسراء، الآية: 35».

قال ابن كثير: أوفوا الكيل إذا كلتم، أى من غير تطفيف «كما فى تفسيره».. وقد توعَّد الله المطففين بالويل الذى هو من أنواع العذاب، قال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» «المطففين، الآيات: 1-3» .. أقول، هذا يجب أن يكون أساس علوم التقويم فى العالم كله، لأنه أساس الموضوعية والإنصاف والعدل. وللحديث صلة. وبالله التوفيق.