رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قوتنا الناعمة.. إفلاسٌ أم تخاذل؟


فى حالة المواجهة مع تحديات كثيرة كالتى نعيشها فى مصر حاليًا، يجب فيها «تجييش» كل الجهود والإمكانيات لتفعيل آليات هذه المواجهة الصعبة، ولا أقصد بالطبع المعنى العسكرى المجرَّد لمفهوم «التجييش»، ولكن أعنى شمولية النظرة والاستراتيجية، أستغرب كثيرًا تخاذل ـ أو تهاون ـ العديد من المؤسسات التى تمثل قوة مصر الناعمة بروافدها الكثيرة، ثقافيًا وفنيًا وإعلاميًا، فى المشاركة فى حالة «الحرب» تلك.. واستمرارها بالعمل بنفس وتيرة إيقاعها البطىء والمتأخر.



مثلث الثقافة والفن والإعلام، كان من أقوى أسلحة مصر فى العقود السابقة، حققت عن طريقه الريادة عربيًا وإقليميًا، وطيلة ثلاثة عقود تقريبًا من خمسينيات القرن الماضى، وحتى الثمانينيات، قبل أن يتراجع هذا المثلث المصرى، تحت وطأة متغيرات إقليمية وعربية، لتبزغ عواصم أخرى، سحبت البساط تدريجيًا وقدمت نفسها فى ظل تقوقع مصر على نفسها، وتراجع أدوات قوتها الناعمة، بحكم التطور التكنولوجى أو ضعف الإمكانيات المادية، ومعهما ما يشبه الإهمال شبه المتعمد، والاعتماد على أن ذكريات التاريخ وحدها كافية لتحقيق الريادة.

فى زمن الحروب المصرية، وحقبة النضال الوطنى، وترسيخ الدولة، كانت الأغنية ومعها الفن، هى ركيزة التفوق الهادف، وكان الوعى بقيمة الكلمة فى الحشد والشموخ الوطنى، يتكاتف جنبًا إلى جنب مع البندقية والرصاصة، حتى فى زمن «الهزيمة» أو «النكسة» كانت الكلمة سلاحًا يشحذ النفوس، بمثل ما كانت فى وقت الحرب والانتصار.

وهنا يمكننى أن أتساءل بحزن، ونحن فى معركة وجود وبقاء حقيقية، سواء ضد الإرهاب وأفكاره وتنظيماته وميليشياته، أو سواء بحكم ظرف اقتصادى صعب، يكون للخروج من نفقه المظلم ثمنه القاسى.. أين قوتنا الناعمة وأدواتنا الفنية والإعلامية والثقافية التى تتضافر مع ما يحدث، وتتضامن مع أرواح ودماء شهدائنا فى حربهم على الإرهاب؟ بل أين كل هذه الأدوات فى التعامل مع مفهوم الوطن ككل؟

لا أتحدث عن مجرد أغنية، أو فيلم، أو كتاب.. ولكن أتحدث عن خطة واستراتيجية، نستلهم من خلالها تجربتنا الناصعة الماضية، ونخرج من خلالها من نفق التشتت والتشرذم والإلهاء المتعمد، باللعب على أوتار مشاكل اجتماعية وجحيم وسائل تواصل طائشة يرمى فيها كل من هبَّ ودبَّ نفايات أفكاره

طيلة قرابة أربعة أعوام من ثورة 30 يونيو، قدم فيها الشعب والجيش والشرطة، فلذات أكبادهم ضريبة فادحة، من أجل صيانة الأمن القومى والدفاع عن مصر/ الدولة/ الشعب/ البقاء - لم أقرأ فيها عن عمل فنى فى السينما أو المسرح أو حتى القصة، يمكن أن يتعامل مع ذكرى شهيد واحد، ولو بشكل عابر ضمن حبكة فنية ضمن نفس العمل الفنى تسجل للتاريخ مشاهد تضحية وفداء، أو حتى تتعامل معها من منظور إنسانى أو أخلاقى على الأقل.

طيلة أربعة أعوام، ونحن نتعامل مع شهدائنا وأسرهم ومشاعرهم وكأنها مجرد أرقام عابرة، وننشغل فقط بما يريده الجمهور، دون أن نغوص أكثر فيما يريده الوطن، وكأننا أفلسنا تمامًا أمام المشاهد الساخنة أو المبتذلة، والقفشات الضاحكة التى تجلب مزيدًا من إيرادات الشباك، ونقدم فى كل أعمالنا الدرامية، مشاهد بعيدة تمامًا عن واقع الأغلبية المصرية الصامتة والمتألمة.

التعامل الأمنى أو العسكرى وحده لا يكفى.. أرواح الضباط والجنود والبسطاء لا تكفى.. الدماء التى تُراق فى سيناء وغيرها على الأرض المصرية لا تكفى.. كل هذه التراجيديا الملتحفة بدموع الفقد، والصمود فى وجه الزمن، للأسف، لم تقنع كاتبًا واحدًا، أو منتجًا واحدًا، أو مؤلفًا واحدًا بأن يتبنى قضية وطنية، أو يتعامل معها بالاحترام اللازم، نبث من خلالها أحد معانى وقيم التضحية المصرية التى ندفعها جميعًا فى هذه المرحلة، بدلًا من الاستمرار فى منهج التشكيك ولوم الذات والبحث عن مجرد شماعةٍ نلقى عليها أوزار الإثارة الفارغة.

بصراحة.. ودون لفٍّ أو دوران.. إذا كنا قد أفلسنا إعلاميًا وثقافيًا وفنيًا.. فهذه كارثة، أما إذا كنا نتخاذل أو نتهاون، فهذه لا تقلُّ فى خيانتها عن هروب جندى فى ساحة المعركة!.