رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجيوش الإلكترونية.. كيف تدمر دولة دون أن تخسر رصاصة واحدة؟


شاركت عام 2003 فى أثينا بمؤتمر استراتيجى، اشتركت فيه أكثر من 15 دولة معظمها من مراكز دراسات استراتيجية، كانت هى مشاركتى الأولى، وكنا فى إحدى ورش العمل.

التفت إلىَّ أحد المشاركين وقال لى: إن أبناءكم أتعبونا!، فقلت له: ماذا تقصد؟!، قال: الهاكرز!، قلت له: كيف؟، قال: يفجرون لنا مواقعنا. قلت: وماذا تفعلون أنتم؟، قال: نُفجر لهم مواقعهم.

لم أكن وقتها على علم بما يفعله هؤلاء، ولحظة أن وصلت إلى جدة سألت أحد المسئولين عن الحاسب الآلى فى الخطوط الجوية السعودية، وقد زارنى فى مكتبى، فقلت له: هل لك أن تدلنى على أحد هؤلاء «الهاكرز»؟، وفى اليوم التالى زارنى فى مكتبى ومعه واحد منهم، وسألته: كيف تُفجرون المواقع الإسرائيلية؟، قال: نحن نشترك فى نوادٍ بكل أنحاء العالم، وأحيانا نطلب من أصدقائنا الدخول فى وقت واحد وفى ثانية واحدة على أحد المواقع الإسرائيلية، فلا يتحمل الحاسب ذلك فينفجر، لكن العالم تجاوز اليوم هذا الأسلوب، وأخذ يستخدم الفيروسات وغيرها من أسلحة وذخائر الدمار الإلكترونى.



الاختراق الإلكترونى، هو القدرة على الوصول لهدف معين بطريقة غير مشروعة، عن طريق ثغرات فى نظام الحماية الخاص بالمستهدف، فالاختراق لجهاز الآخر حتى لو لم يكن بقصد التدمير أو سرقة المعلومات يُعتبر اختراقًا، ويصبح من قام بالاختراق Hacker، لكن هذه الأساليب تطورت ولم تعد تقتصر على الهواة، بل أخذت الدول توظف ذلك فى الحروب دفاعًا وهجومًا، وأصبح لها وحدات وجيوش.

ومع الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجى أخذ العالم يستعد لمواجهة نوع جديد من الحرب، هذا النوع تتفوق أسلحته على الأسلحة النووية التى أمكن تحييدها، وهى التى لم تُستعمل فى القتال إلا مرة واحدة على اليابان، أما السلاح الإلكترونى فيمكنه تدمير دول، دون أن تخسر رصاصة واحدة، كما يمكنه تدمير الأسلحة النووية فى أماكنها، لهذا اتجهت بعض الدول إلى إنشاء وحدات وجيوش إلكترونية استعدادًا للحرب القادمة.

ففى الولايات المتحدة التى تُعتبر رائدة فى الحرب الإلكترونية بدأها الرئيس الأسبق رونالد ريجان ورصد لها المال والرجال، حتى قبل أن يصل التقدم الإلكترونى إلى ما وصل إليه اليوم، وأصبح الجيش الأمريكى يعتمد فى هذه الحرب على ستة عناصر.

ومن أهم هذه العناصر الوحدة الأمريكية لقيادة «الفضاء الإلكترونى»، وتختص هذه الوحدة بالتخطيط، والتنسيق، وإدارة عمليات الحروب الإلكترونية مع باقى الفروع التى تتبعها.

أما وحدة الجيش الإلكترونى الأمريكى، فهذه الوحدة ترتبط بقيادة الجيش الإلكترونى وتتلقى منها الأوامر، وهذه الوحدة تتكون من ثلاث وحدات، هى: وحدة السايبر بقوة المارينز، وتتولى حماية وتأمين منشآت المارينز من الهجمات الإلكترونية وهى وحدة وقائية.

أما وحدة الجيش الإلكترونى البحرية، فتعمل على نحو مشابه لوحدة السايبر، لكنها تتولى حماية المنشآت البحرية، بالإضافة إلى جمع المعلومات عن حروب السايبر.

تأتى بعد ذلك الوحدة الخامسة، وهى القوة الحربية 24 وتختص بالطيران والقوات الجوية الأمريكية، ويتفرع منها ثلاثة أجنحة، وهناك وحدة سادسة هى الأسطول العاشر الأمريكى، وهذا الأسطول يقوم بمهمة التخابر لصالح البحرية الأمريكية، وقد أنشئ هذا الأسطول أول ما أُنشئ للتنسيق بين القوات البحرية فى الحرب العالمية الثانية.

وعندما قامت كوريا الشمالية باختراق شركة سونى فى ديسمبر عام 2014، تولت الولايات المتحدة الأمريكية الهجوم الإلكترونى على كوريا الشمالية، فقطعت عنها خدمات الإنترنت تمامًا ليوم واحد، فكانت ردًا على الاختراقات الكورية، وتحذيرًا لها، وتقويمًا للأداء لهذا النوع من الحروب.

لقد كان هذا الهجوم اختبارًا لقوة وأداء كوريا الشمالية فى الحرب الإلكترونية التى يتولاها المكتب 121 «BUREAU 121»، والذى جعل من أهدافه الإلكترونية كوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وقد أنشئ هذا المكتب عام 1998، وهذا المكتب هو المسئول عن الاختراقات الإلكترونية لشركة سونى التى تسببت فى خسائر بلغت ملايين الدولارات، وجعلت موظفى الشركة الذين يبلغ عددهم 1800 يعودون لاستخدام الأوراق والأفلام لإنجاز أعمالهم.

من أشهر الجيوش التى تحتفظ بوحدات إلكترونية روسيا الاتحادية، وقد اتهمها خصومها بشن حروب إلكترونية، لكن موسكو تنكر ذلك، ومن هذه الاتهامات ما أشارت إليه الولايات المتحدة، من أن الروس قاموا باختراقات إلكترونية فى الانتخابات الأمريكية لصالح الرئيس الحالى دونالد ترامب، واعترف الرئيس الأمريكى ترامب أخيرًا بذلك، بعد أن تأكد من صحة ذلك من الاستخبارات الأمريكية.

ويذكر موقع «بنزنيس انسايدر» أن عددًا من «الهاكرز» شنوا حربًا على أوكرانيا بالتزامن مع انفصال القرم، كما تكرر ذلك من قبل «أوسينا الجنوبية»، لكن الصحفى الروسى «أندريه سولدانوف» أفشى كثيرًا من الأسرار، وقال إن مجموعات من الهاكرز يعملون لصالح الاستخبارات والإشارة الروسية.

ومن الاختراقات الروسية الهجمات التى شنها كرزروس وتمكنوا من اختراق وزارة الخارجية الأمريكية، كما قاموا باختراق أنظمة البيت الأبيض، وتم تسريب جدول أعمال الرئيس السابق باراك أوباما، وهو ما أوردته قناة CNN الأمريكية، ومع نجاح روسيا فى هذا الاختراق، إلا أنه يدل على أنها لا تزال دون مستوى الولايات المتحدة وبريطانيا.

وتُعتبر بريطانيا من الدول التى أعدت جيوشًا إلكترونية، فانضمت للحرب الإلكترونية باللواء 77 عام 2015، الذى يُركز فى الأساس على الحسابات المؤيدة للجهاديين على تويتر، حيث أخذ هذا اللواء يعمل على شن الحروب النفسية، وهذا اللواء يتكون من 2000 جندى.

ويُمثل اللواء 77 تجربة تاريخية للجيش البريطانى فى أربعينيات القرن الماضى فى بورما، حيث كانت القوات الخاصة البريطانية فى الهند، وكانت تُعرف باسم chindits، وكانت تُنفذ هجمات تشتيت واستطلاعات غير ناجحة، وهو ما ذكرته «الديلى بيست» ومع ذلك، فإن صحيفة الإندبندنت نشرت فى 8 فبراير 2017 موضوعًا لمراسلها «كيم سينغوبتا» بعنوان «قراصنة تابعون لتنظيم الدولة داعش» يشنون هجمات إلكترونية على مواقع صحيحة من الحرب الأهلية فى سوريا، وأن الهجمات طالت عدة مواقع تابعة لخدمة الصحة العامة البريطانية، ونشرت خلالها صورًا للفظائع التى تحدث فى الحرب بسوريا، وهذا يشير إلى أن الاختراق الإلكترونى يبين مدى قوة الهجمات الإرهابية، مما يتطلب مزيدًا من الدقة لحماية المعلومات العامة الشديدة الحساسية من التسرب.

أما الصين، فقد اشتهرت بامتلاكها جيشًا من أفضل الجيوش الإلكترونية فى العالم، لكنها لم تكشف حتى الآن عن الوحدة المسئولة عن عمليات الاختراقات الصينية، لكن وزارة العدل الأمريكية توصلت إلى معرفة الوحدة المسئولة فى الصين، فذكرت أنها «unit 61398»، وإنها مصدر الحروب السايبرانية.

وتجلت قوة الصين فى الحرب الإلكترونية فى سرقة أسرار عسكرية أمريكية، واختراق شركات الطاقة النووية، وقد حدث ذلك فى مايو 2014، وهو ما صرح به وزير العدل الأمريكى يوم ذاك «اريك هولدر».

وركزت إسرائيل على الحرب النفسية، فشكلت وحدة عسكرية لهذا الغرض، وتركزت وحدة الكوماندوز الإسرائيلية على 30 موقعًا، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعى، وبثت رسالتها بعدة لغات، هى العربية والإنجليزية والعبرية والفرنسية والإسبانية.. واستخدمت إسرائيل الحرب الإلكترونية فى حربها على غزة عام 2012، لكنها لم تحجب الإنترنت عن القطاع لعدة أسباب، أهمها عدم الرغبة فى تفويت فرصة إحداث اختراق على اتصالات الجهاد الإسلامى وحماس بغزة.. ومن أهم الدول فى الجيوش الإلكترونية فى الشرق الأوسط إيران، وقد دفعتها إلى ذلك الولايات المتحدة، عندما سربت فيروس ستكس نيت stuxnet الذى ضرب برنامج إيران النووى، ومن يومها عززت إيران مواقعها الإلكترونية.

أما الاتفاق النووى مع إيران، فقد أسدل الستار على الخلافات بين الدول الكبرى وإيران، وهذا ما دعا إيران إلى أن تضرب الدول من حولها وتجرى اختبارًا لحروبها الإلكترونية، وبعد أحداث 11 سبتمبر استفادت المملكة العربية السعودية من تجربة «مير لاتش»، هذه المؤسسة التى لم تتأثر بالهجمات رغم تدمير رئاستها فى نيويورك، فقد أخذت بنظرية «Desater Recovery»، بأن شجعت الشركات السعودية على بناء مواقع تبادلية تعمل عندما تتعرض القيادات للإرهاب أو التدمير.

لهذا نجد أن معظم الهجمات الإلكترونية على مؤسسات المملكة لم تعطلها كليًا، بل ظلت المؤسسات تعمل مع تقبل الضرر، فالهجوم على شركة أرامكو دمر 30 ألف جهاز حاسوب معظمها من «الحواسيب» الشخصية، لكن الشركة لم تتعطل، ولم يتأثر الإنتاج، واتهمت فى ذلك إيران من خلال فيروس شمعون، لكن الاتهام ليس مؤكدًا، وليس من المستبعد أن تقوم دول صديقة بهجمات هامشية لتقوية مناعة الأصدقاء، أو تقوم بذلك شركات تجارية لتحقيق الأرباح بقصد التعاقد معها.

لقد قسم معهد الدراسات الاستراتيجى الأمريكى قوة إيران الإلكترونية وجيشها الإلكترونى، والذى أظهر قدرة فائقة على اختراق أهدافه ببراعة، حيث اشتهر جيش إيران باختراق شركة هولندية، واستطاع أن يسرق شهادات رقمية منها، كى يؤَمن من وسائل اتصالاته على الإنترنت، كما استطاع الجيش الإيرانى أن يخترق شركة قطرية للطاقة، ونفذ أيضًا إلى اتصالات بحرية أمريكية فى أواخر 2013 م.

إن أفضل الجيوش الإلكترونية فى العالم على الإطلاق هى الجيوش الأمريكية، فلديها القدرة على تدمير دول كبرى، لكنها تتحفظ فى استخدامها كى لا تُحفز السباق على التسلح الإلكترونى.

ومن أفضل الجيوش الإلكترونية فى العالم العربى المملكة العربية السعودية، إذ بدأت فى السبعينيات من القرن العشرين إعداد العدة لذلك، وحتى قبل اكتشاف الإنترنت، مُركزة فى ذلك على الجانب الدفاعى، تليها الإمارات العربية التى تُعتبر من أوائل الدول العربية تدريبًا على الحرب الإلكترونية، أما المهارات الفردية، فتأتى الأردن فى المقدمة.

لقد وضعت الولايات المتحدة الأُسس فى الحرب الإلكترونية، ورفض الرئيس كلينتون مع انتشار الإنترنت، أن يفرض عليها ضرائب وسعى إلى تعميم الإنترنت عالميًا، فقد أعدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها للسيطرة الفضائية السيبرانية على العالم، وتحقق لها اليوم ذلك.

أما بالنسبة لحلفائها، فقد سخَرت الشركات العالمية المختصة لحمايتهh، بأن قامت بالتدريب وتنظيم الشبكات، وأحيانWا القيام بالاختراقات كى تُعزز المناعة لدى الشركات الصديقة، فتُرغمها على تحصين نفسها، لكن الحرب سوف تظل فى تصاعد بين الدول، وهو ما يُشكل خطورة على مكتسباتها.

فالدول العربية التى هبت عليها رياح الربيع العربى، وكانت فيما مضى حليفة للاتحاد السوفيتى، انشغلت عن ذلك وضعف اقتصادها، فلم تتمكن من مواكبة المتغيرات السريعة.