رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المبادرة الفرنسية.. البداية والمصير


بدأ الصراع العربى- الإسرائيلى عندما صدر وعد بلفور، وقررت بريطانيا إيجاد وطن قومى لليهود فى فلسطين، وفصل شرق العالم العربى عن غربه، وفُتحت الأبواب للهجرة اليهودية يوم كانت بريطانيا تحتل الأراضى الفلسطينية، وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية واضطهاد النازيين لليهود، تزايد الإصرار على دعم فكرة الوطن القومى اليهودى.

ومن يومها انفجر الصراع بين العرب والإسرائيليين، وازدادت حدة الصراع عندما طرحت الأمم المتحدة إنشاء دولة لليهود فى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى، وازداد نشاط الحركة الصهيونية، وتم طرد السكان الفلسطينيين من ديارهم وأراضيهم، وأعلنت دولة إسرائيل خطة لانسحاب البريطانيين من فلسطين عام 1948، وأدى هذا الوجود إلى صدام عسكرى وحروب متكررة بين إسرائيل والمحيط العربى.



اتسع الصراع، وأصبح البعض يطلق عليه نزاع الشرق الأوسط، لأن هذا النزاع هو الأساس فى الصراعات المتعددة فى الشرق الأوسط، لم يكن الصراع عسكريًا فقط، وإنما كان صراعًا شاملاً ممتدًا متعدد الأبعاد، شمل تفاعلات تاريخية وحساسيات دينية ونزاعات سياسية واختلافات ثقافية وتوترات مجتمعية ومقاطعات اقتصادية وتحالفات دولية، فكان من جرائه توطيد الكراهية.

كان من نتائج ذلك، أن العنف المسلح اتخذ دورًا مركزيًا فى تشكيل ملامح الصراع خلال أكثر من نصف قرن دون أن يتراجع هذا الدور، فشهد الصراع خمس حروب كبرى، راح ضحيتها ما يزيد على 200 ألف قتيل وما أنفق خلالها يزيد على التريليون دولار.

لم تكن الحروب وحدها التى اشتعلت، بل أيضاً السلام كان حاضراً منذ عام 1948، ففى الفيلم الوثائقى الذى عُرض فى نيويورك الشهر الماضى، أن مجموعة من الضباط الإسرائيليين والمصريين ألقوا بأسلحتهم وسط الحرب قبل 70 عامًا، وناقشوا احتمالات السلام، كان من بين المجموعة رجلان يجلسان إلى جوار بعضهما، العقيد إسحاق رابين، والرائد جمال عبدالناصر وكان يقال له يومها الصاغ فى مصر، كان اللقاء وديًا، وكان بينهما حد أدنى من النقد.

قال رابين، كما جاء فى الفيلم الوثائقى، إن الضباط الإسرائيليين دعوا نظراءهم المصريين للقاء، بعد أن حاصروا كتيبتهم فى الفالوجة أثناء الحرب العربية الإسرائيلية عام «1948» وكان رابين قائدًا للقوات الخاصة «بلماخ »، عرض «رابين» على المصريين تناول طعام الغداء فى كيبوتس «جات» الإسرائيلى، على أن يتم التفاهم والإفراج عنهم.

جلس عبدالناصر إلى جوار رابين، وجاء فى الفيلم أن عبدالناصر نظر إلى شعار «بلماخ»، وسأل رابين ماذا يعنى ذلك؟ فشرح له رابين ثم قال: من التناحر، إن الحرب التى نخوضها هى الحرب الخطأ ضد العدو الخطأ فى الوقت الخطأ، وقال رابين: لقد كنا قريبين للسلام لكن الأيام باعدت بين خطوات السلام، وفى اليوميات التى جمعتها هدى جمال عبدالناصر فى كتاب بعنوان «ستون عامًا على ثورة يوليو» جمعت أوراقًا خاصة كتبها عبدالناصر يقول فيها: «قوبلنا فى الفالوجة مقابلة حسنة واجتمعنا مع اليهود، وتكلم القائد اليهودى، وقال: إنه يرغب أن يمنع سفك الدماء، وإن موقفنا ميئوس منه، فاعترض القائد المصرى وطلب الانسحاب إلى غزة، أو رفح، فمانع اليهود، وقال: إنهم يوافقون بشرط أن يخرج الجيش المصرى من كل فلسطين، وخرج الجيش المصرى، وطالبنا بإخلاء الجرحى، وأخيرًا خرجنا وقدموا لنا العصير والبرتقال و«السندوتشات»، والشيكولاتة والمُلبسات وبيتيفور وبسكويت، ولم يوردوا فى اليوميات اسم القائد أو اسم رابين، أما القائد الصهيونى فقد كان «إيجال آلونه».

لكن السادات وقَّع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 لأنه قارئ جيد للتاريخ، وأُغتيل عام 1981 كما أغتيل رابين الذى وقع السلام مع ياسر عرفات برصاص مسلح يهودى معارض لمفاوضات السلام فى نوفمبر عام 1995 ميلادية.

بعدها توالت المبادرات العربية والأمريكية، واليوم تطالعنا المبادرة الفرنسية، حيث كانت أهم مبادرة هى التى طرحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، فقد بناها على القرارات الدولية، وكان الغرض منها إيقاف التمدد الإسرائيلى، إذ أصبح كل تمدد إسرائيلى مخالفًا للشرعية الدولية، ووثقت مبادرة الملك عبدالله فى مؤتمر القمة الذى عُقد فى لبنان عام 2002، وبعد أن أجمع عليها قادة العرب أصبحت تحمل اسم «المبادرة العربية»، لكن إسرائيل حتى الآن لم توافق عليها بشكل رسمى، وأصبحت هذه المبادرة هى الإطار الذى انبثقت منه جميع المبادرات التالية للسلام.

جاءت المبادرة الفرنسية تقترح مبادئ لحل الصراع، لأن مايحدث اليوم فى الشرق الأوسط من حروب وصراعات وظهور للإرهاب نتيجة للصراع العربى الإسرائيلى، ومن أهم المبادئ التى جاءت فى المبادرة الفرنسية تثبيت الحدود للرابع من يونيو 1967 ميلادية، وهذا يؤكد انطلاقها من إطار المبادرة العربية.

ومن مبادئ المبادرة الفرنسية تبادل أراض بين الطرفين وجعل القدس عاصمة مشتركة بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، وتحديد جدول زمنى لإنهاء الاحتلال، وعقد مؤتمر دولى للسلام. وافق العرب على هذه المبادرة، كما وافق عليها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبومازن وقال: «إن الفرنسيين يريدون أن يتقدموا باسم الفلسطينيين بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، ورفضت إسرائيل المبادرة بعد انعقاد مباحثات استراتيجية بين فرنسا وإسرائيل فى نهاية عام 2016، وتحولت إلى صراع حول نقطتين: الأولى من حيث المبادرة، والثانية بسبب الثقة بين الطرفين».

فالإسرائيليون رفضوا الجدول الزمنى لإنهاء الصراع، والثانى لوقوف فرنسا خلف المبادرة الأوروبية لمقاطعة منتجات المستوطنات ووضع علامات عليها، ولكون وزير الخارجية الفرنسى السابق هاجم إسرائيل فى عدوانها على غزة، لكن فرنسا تُصر وتجمع المؤيدين من دول العالم لهذه المبادرة.

أما الدعم العربى، فقد جاء يوم السبت 23/ 7 / 2016 ميلادية من قبل وزراء الخارجية العرب الذين أكدوا دعمهم للمبادرة الفرنسية الرامية إلى عقد مؤتمر دولى للسلام قبل نهاية العام الجارى، وإعادة إطلاق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بمتابعة دولية، وطالبوا بآلية دولية متعددة الأطراف لإنهاء كامل للاحتلال الإسرائيلى لدولة فلسطين والأراضى المحتلة منذ عام 1967، وفق أُطر زمنية محددة للاتفاق والتنفيذ.

دعا مجلس الجامعة العربية التحضيرى قمة 27 بالعاصمة الموريتانية «نواكشوط» أعضاء اللجنة الرباعية للسلام فى الشرق الأوسط إلى مراجعة موقفها وإعادة النظر فى تقريرها الصادر فى يوليو 2016 الذى يتناقض مع القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية.

طرحت المبادرة الفرنسية، عندما أعلن عنها وزير الخارجية الفرنسى «لوران فابيوس»، خلال جولته فى المنطقة لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ومع أن هذه المبادرة لاقت ترحيبًا من السلطة الفلسطينية والدول العربية، إلا أنها لم تحظ بموافقة رئيس الحكومة الإسرائيلية.

لم تتعارض المبادرة الفرنسية مع المبادرة العربية، لكنها وضعت القدس عاصمة للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، كما وضعت حدًا زمنيًا للمفاوضات بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق نهائى، مع مواكبة دولية لعملية السلام.

لقد صيغت المبادرة الفرنسية، على أن تكون هناك مواكبة لعملية السلام، وأكد وزير الخارجية الفرنسى أن المبادرة الفرنسية ليست لصنع السلام، بل لدفع الأطراف كى تصنع السلام، وطلب أن تكون رعاية المفاوضات من قبل مجموعة دعم دولية تضم دولاً عربية، والاتحاد الأوروبى، والدول الأعضاء بمجلس الأمن.

فالمبادرة الفرنسية ما هى إلا دفع لعملية السلام قدمًا برعاية دولية ومفاوضات بين الطرفين، وتحديد مدة لهذه المفاوضات، حتى لا تتحول المفاوضات إلى تسويف قد يخالف القرارات الدولية.

لم تبين الحكومة الإسرائيلية سبباً لرفض هذه المبادرة، هل هو بسبب التدويل؟ أم بسبب تحديد سقف زمنى للمفاوضات، أم أنها نصت على أن القدس عاصمة للدولتين، أم أن المبادرة تتجلى فى كسر الجمود فى المفاوضات وتحريكها للوصول إلى الحل النهائى.

لقد أصرت إسرائيل على رفض المبادرة الساعية إلى عقد مؤتمر دولى فى باريس قبل نهاية عام 2016، واعتبرت أن المؤتمر سوف يتسبب فى صرف الانتباه عن المفاوضات المباشرة التى لم تؤد إلى نتيجة ملموسة.

لكن فرنسا عقدت مؤتمرًا تمهيديًا فى يونيو 2016، جمع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية وعددًا من الدول العربية، لبحث مقترحات دون حضور الإسرائيليين والفلسطينيين.

إن السبب الرئيسى فى تعثر المفاوضات اثنان: عدم توقف بناء المستوطنات الإسرائيلية والانقسام السياسى الفلسطينى، مما يدل على أن الإرادة الإسرائيلية لم تتوافر لديها حتى الآن وأن إرادة السلام مفقودة، لهذا تُصر على الاستمرار فى بناء المستوطنات، كما أن الفلسطينيين لم تتوافر لديهم الرغبة فى تحقيق السلام، لإصرارهم على عدم تجاوز الخلافات السياسية الذاتية بينهما، فلو كانت الرغبة فى السلام متوافرة لديهم لكان السلام أهم من المطالب.

إن أهم نتائج مؤتمر باريس حول السلام فى الشرق الأوسط، أنه شدد على حل الدولتين، لتحقيق السلام الدائم بالمنطقة، وطالب الفلسطينيين والإسرائيليين بعدم اتخاذ خطوات أُحادية الجانب بخصوص القضايا الكبرى العالقة، ومن بينها القدس واللاجئين، وقد وصف المراقبون المؤتمر بالقمة الرمزية، بينما اعتبرته إسرائيل سبباً فى إبعاد فرص السلام، بينما رحبت منظمة التحرير الفلسطينية بنتائجه.