رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» «3-3»


ذكرنا فى المقالين السابقين بعضًا من معانى الإحسان. الموضوع طويل جدًا ويحتاج إلى مجلدات، ولكننا نكتفى مع القراء بالإشارة إلى جوهر الموضوع. وفى هذا المقال المتمم، نعرض شيئاً عن جزاء الإحسان.

فى البداية يحسن أن نقول إن الإحسان خصيصة تدل على النبل والعرفان بالجميل، والاحترام للمنعم والقيام بالواجب. والإحسان -كما يقول العلماء- ينبئ عن «الصفاء والوفاء والسخاء»، فبالإحسان تكسب النفوس ويشُترى الحب، ويُخطب الودّ ويُهيمن على القلوب، وتستعبد الأفئدة.



نقرأ قول الله تعالى فى محكم التنزيل: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأى آلاء ربكما تكذبان». يقول العلماء فى هذا القول وجوه كثيرة حتى قيل: إن فى القرآن ثلاث آيات فى كل آية منها مائة قول. الأولى: قوله تعالى: «فاذكرونى أذكركم» «البقرة: 152»، الثانية: قوله تعالى: «وإن عدتم عدنا» «الإسراء: 8»، الثالثة: قوله تعالى: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان».

وأنا أقول هنا إن فى القرآن آيات فى كل منها ألف قول أو يزيد، ألم تقرأوا قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». ويذكر العلماء الأشهر والأقرب من تلك المعانى. أما الأشهر فوجوه: أحدها: هل جزاء التوحيد غير الجنة، أى جزاء من قال: لا إله إلا الله إدخال الجنة. ثانيها: هل جزاء الإحسان فى الدنيا إلا الإحسان فى الآخرة. ثالثها: هل جزاء من أحسن إليكم فى الدنيا بالنعم وفى العقبى بالنعيم، إلا أن تحسنوا إليه بالعبادة والتقوى، وأما الأقرب فإنه عام، فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضًا، ولنذكر تحقيق القول فيه، وترجع الوجوه كلها إلى ذلك. فنقول كما قال العلماء: الإحسان يستعمل فى ثلاثة معان:

أولها: إثبات الحسن وإيجاده، قال تعالى: «فأحسن صوركم» «غافر: 64» وقال تعالى: «الذى أحسن كل شىء خلقه» «السجدة: 7».

وثانيها: الإتيان بالحسن، كالإظراف والإغراب، للإتيان بالظريف والغريب قال تعالى: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» «الأنعام: 160».

أما ثالثها: فيقال: فلان لا يحسن الكتابة ولا يحسن الفاتحة، أى لا يعلمهما، والظاهر أن الأصل فى الإحسان الوجهان الأولان، والثالث مأخوذ منهما، وهذا لا يفهم إلا بقرينة الاستعمال، مما يغلب على الظن إرادة العلم. إذا علمت هذا، فنقول: يمكن حمل الإحسان فى الموضعين على معنى متحد من المعنيين، ويمكن حمله فيهما على معنيين مختلفين. أما الأول: فنقول: «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَان». أى هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى فى مقابلته بفعل حسن، لكن الفعل الحسن من العبد ليس كل ما يستحسنه هو، بل الحسن هو ما استحسنه الله منه، فإن الفاسق ربما يكون الفسق فى نظره حسنًا، وليس بحسن، بل الحسن ما طلبه الله منه، كذلك الحسن من الله هو كل ما يأتى به مما يطلبه العبد كما أتى العبد بما يطلبه الله تعالى منه، وإليه الإشارة عن الجنة التى هى من جزاء المحسنين بقوله تعالى: «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين». «الزخرف: 71» وقوله تعالى: «وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ» «الأنبياء:102».

وقال تعالى: «للذين أحسنوا الحسنى» «يونس: 26». أى ما هو حسن عندهم. وأما الثانى: فنقول: هل جزاء من أثبت الحسن فى عمله فى الدنيا إلا أن يثبت الله الحسن فيه وفى أحواله فى الدارين وبالعكس، هل جزاء من أثبت الحسن فينا وفى صورنا وأحوالنا إلا أن نثبت الحسن فيه أيضًا، لكن إثبات الحسن فى الله تعالى محال، فإثبات الحسن أيضًا فى أنفسنا وأفعالنا فنحسن أنفسنا بعبادة الله سبحانه وتعالى، ونحسن أفعالنا بالتوجه إليه تعالى، وأحوال باطننا بمعرفته تعالى، وإلى هذا رجعت الإشارة.

وأما الوجه الثالث: وهو الحمل على المعنيين، فهو أن تقول: هل جزاء من أتى بالفعل الحسن، إلا أن يثبت الله فيه الحسن، وفى جميع أحواله فيجعل وجهه حسنًا وحاله حسنًا، ثم يقول بعض العلماء وبعض المفسرين إن فيه لطائف:

أما اللطيفة الأولى: فهذه إشارة إلى رفع التكليف عن العوام فى الآخرة، وتوجيه التكليف على الخواص فيها.

واللطيفة الثانية: هذه الآية «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان» تدل على أن العبد المحسن متنعم فى الآخرة، كما قال تعالى: «لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون».

واللطيفة الثالثة: هذه الآية تدل على أن كل ما يفرضه الإنسان من أنواع الإحسان من الله تعالى فهو دون الإحسان الذى وعد الله تعالى به للإنسان.

وقد قال الله تعالى فى كتابه الكريم «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» هذه الزيادة مطلقة وغير محددة. فالعطاء عند الله تعالى مفتوح « وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ». جعلنا الله تعالى وأنتم أيها القراء الكرام من المحسنين، وجعلنا أهلاً لإحسانه تعالى وفضله ولا حرمنا من الزيادة التى وعد الله تعالى بها. ولعلنا نعود هنا إلى الحديث مرة أخرى، ولن نوفى الموضوع حقه مهما عدنا إليه ومهما عاد إليه كل العلماء فى كل عصر ومصر.

طبعًا الإحسان من العبد، يكون على قدر التكليف والقدرة البشرية، أما الإحسان من الله تعالى، فهو إحسان الخالق المتصف بصفات الكمال والجلال وبالأسماء الحسنى جميعًا. وهو القائل «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا». ولكن إحسان العبد مهما كثر وتعدد فهو معدود ولا يجل عن الإحصاء والحصر.. وبالله التوفيق.