رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التوبة


يظل باب التوبة مفتوحا حتى الغرغرة أى قبل الموت، ويظل باب الرحمة قائما حتى دخول أهل الجنة إليها، ودخول أهل النار إليها، وبعد ذلك تظل الرحمة قائمة لمن ينهى ما عليه من عذاب فى النار فيخرج بفضل الله تعالى ورحمته إلى الجنة...

... ومن الآيات الكريمة ذات الصلة «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» ومنها كذلك «إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ». لا أظن أن هناك من المعاصرين، للشاعر العربى «أبو نواس» أو من جاءوا بعده من توقع أنه يتوب بعد ما كان فى حياته من مجون وفسق. ومن ثم ولذلك، فإنه لا يزال يعرف بالمجون. فى ظنى واجتهادى فى قراءة حياته وآثاره، لقد تاب الله عليه بعد توبته وعودته إلى الله ، ولكن الناس لم ينسوا له ماضيه لما فيه من انحراف ومجون.

إن التوبة أمر واجب على كل مؤمن، فى كل حال، ومن كل ذنب. والتائب يحبه الله تعالى، والتوبة من أسباب الفلاح فى الدنيا والآخرة، وأن الله يقبل التوبة من عباده ويتجاوز عن الذنوب مهما عظمت. وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ (سورة البقرة)، وقال الله سبحانه فى القرآن الكريم: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (سورة النصر)، ونقرأ أيضا قولالله تعالى فى القرآن الكريم: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾ (سورة النساء).

والتوبة – كما يقول العلماء - تعنى الندم على فعل المعصية، حتى يحزن العاصى والمذنب على فعلها ويتمنى لو لم يفعلها. ثم الإقلاع عن المعصية فورا، فإن كانت فى حق الله تركها، وإن كانت فى حق المخلوق تحلل من صاحبها، ويكون ذلك بردها إليه أو بطلب المسامحة منه. مع العزم الأكيد على أن لا يعود إلى تلك المعصية مستقبلا. ولنعلم أن الله يغفر الذنوب، ويقبل التائبين، ويقيل عثرات المذنبين، وقد قص لنا القرآن الكريم أحوال التائبين، كتوبة أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين تخلفوا عنه فى غزوة العسرة، وصدقوا فى توبتهم وندموا على تخلفهم حتى ضاقت عليهم أنفسهم، فقبل الله توبتهم. فلا يقنط أحد من رحمة الله تعالى، مهما بلغت ذنوبه، فرحمة الله وسعت كل شىء، وهو الذى يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك بالله ويقبل توبة من تاب. «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ».

يقول أبو نواس رحمه الله تعالى– فى أبيات وجدت تحت رأسه فى الفراش الذى مات فيه يناجى فيها الله تعالى ويدعوه ويستغفره ويأمل فى عفوه تعالى ويقر بما أجرم فى حق الله تعالى:

يارب إن عظمت ذنوبى كثرة.. فلقد علمت بأن عفوك أعظم..إن كان لا يرجوك إلا محسن.. فبمن يلوذ ويستجير المجرم.. أدعوك رب كما أمرت تضرعا.. فإذا رددت يدى فمن ذا يرحم.. مالى إليك وسيلة إلا الرجا.. وجميل عفوك ثم أنى مسلم.

ثم يقول فى أبيات جميلة متأملا فى خلق الله تعالى، ليدرك من يقرأها بأن الله تعالى ليس له شريك، وهو إقرار بالوحدانية الخالصة التى تدل عليها آيات الله تعالى فى الخلق إن كان نباتا أو غير ذلك من الآيات:

تأمل فى نبات الأرض وانظر.. إلى آثار ما صنع المليك.. عيون من لجين شاخصات.. بأحداقٍ هى الذهب السبيك.. على كثب الزبرجد شاهداتٍ.. بأنّ الله ليس له شريك.

ونراه مرة أخرى يدعو الله تعالى فى أبيات جميلة يستعطف فيها الله وينشد رحمته الواسعة ويقر مرة أخرى بالذنب المتراكم:

إلهى لا تعذبنى فإنّى.. مقرّ بالذى قد كان منّى .. يظنّ الناس بى خيراً وإنّى.. لشرّ الناس إن لم تعف عنّى.. ذنوب على آثارهن ذنوب.

وما أجمل قوله فى هذه الدنيا الفانية وكأنه يفسر الأية الكريمة «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ »: ألا كل حيّ هالك وابن هالك.. وذو نسبٍ فى الهالكين عريق.. إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت..له عن عدوّ فى ثياب صديق.. أخى مابال قلبك ليس ينقى.. كأنك لا تظن الموت حقّا.. ألا يا بن الذين فنوا وبادوا.. أما والله ما ذهبوا لتبقى. لقد قال أبو نواس رحمه الله تعالى، كلمة حق فى هذه الدنيا الفانية ، وهى من الحكم البالغة لمن يستبصر . نعم إذا إمتحن الدنيا لبيب تكشفت له الدنيا عن عدو فى ثياب صديق». وهذا هو الغرور، فالدنيا كالسراب إذا جاءه الانسان لم يجده شيئا . ومع كل هذا نحن ندعو الله تعالى «رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»ندعوه لكى تكون الدنيا فى أيدينا وليس فى قلوبنا وأن نملكها ولا تملكنا. وهناك بعض العلماء الذين حددوا ثمانية عشر مفتاحا للتوبة يأتى فى مقدمتها الاخلاص لله تبارك وتعالى، ثم امتلاء القلب من محبة الله تبارك وتعالى، ثم المجاهدة للنفس، ثم قِصَر الأمل وتذكّر الآخرة، ثم العلم، ثم الاشتغال بما ينفع وتجنّب الوحدة والفراغ، ثم البعد عن المثيرات، وما يذكّر بالمعصية، ثم مصاحبة الأخيار، ثم مجانبة الأشرار ، ثم النظر فى العواقب، ثم هجر العوائد، ثم هجر العلائق، ثم إصلاح الخواطر والأفكار، ثم استحضار فوائد ترك المعاصى، ثم استحضار أضرار الذنوب والمعاصى، ثم الحياء، ثم تزكية النفس، ثم الدعاء، وهذه كلها أعظم الأسباب، وأنفع الأدوية، بل الدعاء عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يُخفِّفه إذا نَزَل. ومن أعظم ما يُسأل، ويُدعى به اللهم تب علينا جميعا وعلى القراء الكرام سؤال الله تبارك وتعالى التوبة.