رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1-2»


يزخر القرآن الكريم بحكم وتوجيهات عديدة تصلح حياة الناس جميعاً وليس المسلمين فقط، فضلاً عن الأوامر والنواهى العديدة التى يسعد من يلتزم بها فى الدنيا والآخرة إن كان من رجال المقدمة أو الحراسة أو رجال الساقة «أى الذين يسوقون الناس فى المهمات، وذلك إشارة الى ضعف أنهم من المؤخرة أو أن منزلتهم ومهمتهم فى الدنيا ليست الأكثر أهمية»...

... يقول صلى الله عليه وسلم «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان فى الحراسة، كان فى الحراسة، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع» يقول الدكتور عمر المقبل فى هذه الآية وغيرها من الآيات المماثلة التى فى كتاباته التى عنونها: « قرآنية» فهاؤم لمحاتٌ جلية، ووقفاتٌ ندية، مع مقاطع من آيات من كتاب الله العزيز، فيها حكم وعبر ودرر، نحاول فيها ـ إن شاء الله تعالى ـ أن نقف على جملٍ قصيرة من الجمل التى بُثّت فى ثنايا القرآن، وهى على قصرها، حوت خيراً كثيراً، واشتملت على معانٍ جليلة، تمثل فى حقيقتها قاعدة من القواعد، ومنهجاً ومنهاجاً، سواءً فى علاقة الإنسان مع ربه، أو فى علاقته مع الخلق، أو مع النفس.

إذا فهى قبس وضاء، وبدر منير، وسراج وهاج، وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أوتى جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيقول الجملة الواحدة من كلمتين أو ثلاث، ثم تجد تحتها من المعانى ما يستغرق العلماء فى شرحها صفحاتٍ كثيرة، فما ظنك بكلام الله جل وعلا الذى يهب الفصاحة والبلاغة من يشاء؟! إن من أعظم مزايا هذه القواعد، الأجر المتكرر عند قراءتها وشمولها، وسعة معانيها، فليست هى خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلاً، بل هى شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التى يتقلب فيها العباد، فثمة قواعدُ تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعدُ تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعدُ لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء فى العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات، بل لا أبالغ إذا قلتُ ـ وقد تتبعتُ أكثر من مائة قاعدة فى كتاب الله: إن القواعد القرآنية لم تدع مجالاً إلا طرقته ولا موضوعاً إلا ذكرته».

يرى الدكتور المقبل أن أولى هذه القواعد، وهى قاعدة من القواعد المهمة فى باب التعامل بين الناس، وهى قوله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» «البقرة: من الآية83». إنها قاعدة تكرر ذكرها فى القرآن فى أكثر من موضع إما صراحة أو ضمناً: فمن المواضع التى توافق هذا اللفظ تقريباً: قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِيَ أَحْسَنُ» «الإسراء: من الآية53». وقريب من ذلك أمره سبحانه بمجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن، فقال سبحانه: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» «العنكبوت/46». أما التى توافقها من جهة المعنى فكثيرة، كما سنشير إلى بعضها بعد قليل. إذا تأمل فى قوله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» جاءت فى سياق أمر بنى إسرائيل بجملة من الأوامر وهى فى سورة مدنية ـ وهى سورة البقرة ـ وقال قبل ذلك فى سورة مكية ـ وهى سورة الإسراء: أمراً عاماً «وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن».. إذاً فنحن أمام أوامر محكمة، ولا يستثنى منها شيء إلا فى حال مجادلة أهل الكتاب ـ كما سبق». انتهى كلام الدكتور المقبل.

أما الإمام القرطبى رحمه الله تعالى فيرى أن قوله تعالى «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ. «83» يشتمل على عشر مسائل.

تقتصر هنا على المسألة الثامنة التى تتعلق بقوله تعالى «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً»، مما جاء فى هذا التفسير العظيم.

جاء فى تفسير القرطبى أن قوله تعالى: وقولوا للناس حسناً نصب على المصدر على المعنى ; لأن المعنى ليحسن قولكم. وقيل: التقدير وقولوا للناس قولاً ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائى «حسناً» بفتح الحاء والسين. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البخل والبخل، والرشد والرشد. وحكى الأخفش: « حسنى » بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: « وهذا لا يجوز فى العربية، لا يقال من هذا شىء إلا بالألف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر «حسنا» بضمتين، مثل «الحلم». قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها. ابن جريج: قولوا للناس صدقاً فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته. سفيان الثورى: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به.

وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغى للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر، والسنى والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى مذهبه ; لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: فقولا له قولاً لينا. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فى حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: وقولوا للناس حسنا. فدخل فى هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفى. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: «لا تكونى فحاشة فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء». وقيل: أراد بالناس محمداً صلى الله عليه وسلم، كقوله: أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله. فكأنه قال: قولوا للنبى صلى الله عليه وسلم حسنا». وللحديث صلة. وبالله التوفيق.