رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخوف من الحرية


عرف الفيلسوف الأمريكى «فروم» مفهوم الخوف من الحرية بأنه فرق بين التحرر من الحرية، أى الحرية السلبية والحرية الإيجابية أى الحرية لأجل هدف مشروع، فالحرية السلبية هى التحرر من القيود والقواعد الاجتماعية المفروضة على أفراد المجتمع

كالمناسبات الاجتماعية التى تفرض على أعضاء المجتمع، وقد تكون هذه الحرية السلبية عامل هدم حقيقى للروابط الاجتماعية، ويشير «فروم« إلى أنه غالبا ما يسعى أصحاب هذه النظرية حتى عندما ينجحون فى إسقاط أنظمة بعينها، إلى ضرورة البحث عن بديل عما تخلص منه، ويقارن هذا النوع من التوجه بمرحلة فطام الرضيع فى طفولته.

ويشير «فروم» إلى أنه فى الغالب الأعم ما ينتقل المجتمع من الحرية السلبية إلى الحرية الإيجابية، من فطام الصغير إلى «الحرية لأجل»، فينتقل المجتمع من نظام قديم إلى نظام لا يختلف كثيرا عنه إلا من الناحية الشكلية، أو الجانب الخارجى، ويبقى الإطار المقيد للتفكير والتصرف ولو بدا سعيه نحو التطور والنمو.

والمتتبع للتاريخ الأوروبى يدرك أن المصلحين «مارتن لوثر» و«جون كلفن» مع ثورتهما الإصلاحية اللاهوتية ومع حركة الإصلاح هذه التى قادت إلى حرية التفكير، فعلى الجانب الآخر من سقوط النظام الاجتماعى فقد ظهر بجلاء النظام الرأسمالى كنتيجة لثورة الإصلاح.

وقد رسم «لوثر» لوحة تشير إلى أن علاقة الإنسان بخالقه هى علاقة شخصية بعيدة عن أى تأثير خارجى حتى من السلطة الكنسية، بينما خالفه «كلفن» الذى نادى بأن المصير الإنسانى مرتبط بالإرادة الإلهية التى لا يد للإنسان فيها، إذ هى اختيارية من الجانب الإلهى.

وفى ضوء النظريتين اللاهوتيتين لكل من لوثر وكلفن والمرتبطين بالوضع الاقتصادى المتحرر، فالأول «لوثر» يعطى الإنسان حرية أكبر فى الحياة الإيمانية، والعلاقة بينه وبين الخالق، وبعيدا عن تسلط الهيمنة الكنسية السائدة فى زمانه، ومن هذا المفهوم برز الوضع الاقتصادى والمتحرر.

أما الفكرة الثانية لـ«كلفن»، فهو يعطى انطباعا بالتسليم للإرادة الإلهية، وما على الإنسان إلا الخضوع للإرادة العليا والسلوك الإيمانى للتجاوب مع الطريق المرسوم للحياة الأفضل، ومن النظريتين اللاهوتيتين سعى ويسعى الإنسان إلى العمل باجتهاد لنوال الحياة الأبدية بتطويع حريته للإرادة الإلهية والسير «فيها».

ونستنتج من هاتين النظريتين محاولة الهروب من الحرية خوفا من الابتعاد عن دائرة الإرادة الإلهية، ونتج عن محاولة الهروب هذه تصنيف وسائل الهروب من الحرية على النحو التالى:

1- الشخصية التسلطية.

2- الشخصية العبثية.

3- الشخصية المستسلمة لإرادة تحكمية.

أما الشخصية التسلطية كما يراها «فروم» فصاحبها متسلط على الآخرين، ويتمنى أن يحوز قوة غير عادية ولو فى شخص آخر أو فكرة مجردة.

وأما الشخصية العبثية فصاحبها هو الشخص الذى يميل أكثر إلى تدمير ما لا يستطيع السيطرة عليه.

والنوع الثالث فهو الشخص المستسلم للفكرة أو إرادة الغير، وبذلك لا يهتم كثيرا بحرية الإرادة أو التفكير، وباللغة الدارجة، يشترى دماغه.

وبعد هذه المقدمة الطويلة لابد أن نقدم للقارئ المفهوم الصحيح للحرية، فالحرية هى قدرة الإنسان على اتخاذ القرار، أو اختيار الاتجاه دون أى ضغط أو إجبار أو إكراه أى مصدر خارجى سواء كان قيداً مادياً أو تأثيرا معنويا ليختار قراره أو حكمه الذاتى دون مؤثر استعبادى من شخص أو جماعة.

أما الحريات فهى إما موجبة أو سالبة، نعم أو لا، والحرية دون قيد هى الحرية الطبيعية، أى أنها حق لا يمنح من سلطة أو فرد أو نظام، فقد ولدنا أحراراً وما يرد من قيود هى من صنع الإنسان لتنظيم العلاقات والتعايش السلمي، وفى حدود يرضاها المجتمع الإنسانى لتنظيم العلاقات، لا للكبت وفرض القيود التى لا يرجى منها إلا المزيد من القيود لصالح المستبد والمستغل ليس إلا.

ومن مشاهير فلاسفة الحرية يقول «فولتير»: «أنا لا أتفق مع رأيك ولكنى سأبذل كل جهدى لتمكينك من ممارستك لحريتك».

أما »إيمانويل كانت»: فيقول: «لا يستطيع أحد أن يفرض على وسيلته ولكنى أكون أكثر سعادة بتمكين غيرى من طرح فكره بحرية لا تقل عن حريتى».

أما «جون مل» فيقول: «ما يجعل الإنسان إنساناً هو حمايته للتعبير عن نفسه».

فالحرية إذا ليست التحرر من العقيدة والمثل والأخلاق، وإنما الخروج من التعصب والذاتية الضيقة والانتقال من الرصيد السابق غير المتطور.

وفى عبارة ختامية تلخص الحرية فى تحقيق اهتمامات الشعوب من خلال الأساليب الديمقراطية القائمة على حق التصويت العادل الحر والذى يؤدى إلى حكم الأكثرية لهذا الأسلوب الراقى، وليس بالإرهاب والتهديد، أو بالوعيد والإغراء، أو الإغواء لصالح المجتمع - كل المجتمع - الذى ينتمى له الجميع دون استثناء أو إقصاء، إنها الحرية وإن خفنا منها، إلا أنها الوسيلة الوحيدة ولا سبيل أمامنا سواها مهما كلفنا ذلك