رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محاولة للفهم


وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

هذا قرآن كريم فى حق النبى محمد -صلى الله عليه وسلم- وحقَّ له أن يكون نبياً، وأن ينزل فيه قرآن كريم يتلوه الإنسان إلى يوم القيامة, يصفه صلى الله عليه وسلم بالخلق العظيم، فهل استفاد المسلمون من هذه التزكية فى أى شىء...

... أقول: والله العظيم لو أن المصريين على سبيل المثال، تمثلوا هذه الآية وحدها، وبحثوا عن مقومات هذا الخلق العظيم. وجعلوها فى مناهج السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية، وشتى مناحى الحياة لصاروا أفضل الأمم يشار إليهم بالبنان.

تصوروا معى لو أن الأخلاق كانت عظيمة فى المدارس على مختلف مستوياتها، هل كنتم ستجدون طالباً يسب أو يشتم مدرسه؟ أو هل كنتم ستجدون مدرساً أو مدرسة يضربون التلاميذ حتى الهلاك كما نسمع أو نرى. وهل كنا سنرى هذه الدروس الخصوصية المرهقة للجميع وخصوصاً فى مراحل الشهادات الدراسية ؟ أم كنا سنرى المدرس يبذل جهده فى الفصل الدراسى، وتنظيم الدراسة فى المدارس حتى آخر يوم فى العام الدراسى قبل موعد الامتحانات، هل كنا سنرى البرشام لدى الطلبة أو تسريب الأسئلة من الكنترول؟ هل كنا نرى اعتداء جنسياً على الأطفال كما نقرأ أو نسمع من الحكايات المؤسفة؟ هل كنا سنرى طالباً فى الجامعة أو بعض المتخرجين ممن لا يحسنون كتابة جملة عربية صحيحة أو يقرأون بيتاً من الشعر العربى أو يقرأون آية من القرآن الكريم قراءة صحيحة.

فى بعض الأحاديث «الدين حسن الخلق». وماذا يظن الإنسان بنفسه إذا كان عابداً وكان سيئ الخلق حتى مع الدواب «عُذّبت امرأة فى هرّة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هى أطعمتها، ولا سقتها إذ حبستها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض».

كلنا يسير فى شوارع القاهرة، ويرى مظاهر سيئة فى قيادة السيارات وخصوصاً الميكروباصات، تدل على سوء الخلق، فضلاً عن ضعف القيادة أو حتى مع المهارة الفنية فى القيادة. نرى الأنانية والذاتية المقيتة على أصولها، وينسى معظم السائقين قوله صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِن أحَبِّكُم إِليَّ وأَقربِكُم مِنِّى مجلسًا يومَ القيامَة: أَحاسِنكم أخلاقا». نسمع فى الشارع ألفاظاً يندى لها الجبين، ونسمع صفارات «وكلاكسات» ما أنزل الله بها من سلطان، وما من سبيل حتى بعد مرور هذه السنوات على ثورة يناير أو الثورتين العظيمتين.

كثير من الجرائم، وكثير من القضايا المتكدسة فى المحاكم أساسها ضعف الأخلاق والكذب والتزوير من المواطنين ومن بعض المحامين الذين يدافعون عن المجرمين. أما فى العلاقات الاجتماعية فقد قال صلى الله عليه وسلم «إذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ». هنا قدّم رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، قدّم، الدين والخلق، وقال صلى الله عليه وسلم» تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ».

هنا أيضاً يؤكد صلى الله عليه وسلم فاظفر بذات الدين تربت يداك، أى ربحت يداك أيها الراغب فى الزواج، ولذلك فإن الشاعر الجميل يقول: لَيْسَ الجَمَال بأَثْوابٍ تُزَيِّنُنَا..إن الجمال جمال العلم والأدب وأول العلم المفيد « فأعلم أنه لا إله إلا الله».

انظر أيها القارئ إلى هذه الرحمة التى يدعو إليها القرآن الكريم وهى من الخلق العظيم» فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ». وقصة ذلك الرجل، الأقرع بن حابس التميمى رضى الله عنه، عندما رأى النبى صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن أو الحسين، فقال له: أو تقبلون أولادكم، إن لى عشرة من الولد، ما قبلت أحداً منهم قط، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك.

إن أثقل شيء فى الميزان يوم القيامة هو حسن الخلق. والله تعالى يقول « الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»فالإنفاق فى الجهر والسر، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس «كل الناس» من الإحسان الذى يحبه الله تعالى.

نعم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ». إن سيرة الرسول كلها صلى الله عليه وسلم تدل على هذا الخلق العظيم. وأذكر هنا أمرين: الأمر الأول دعاؤه وقوله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الطائف « اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِى، وَقِلّةَ حِيلَتِى، وَهَوَانِى عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّى، إلَى مَنْ تَكِلُنِى؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِى؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِى؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِى، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِى، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِى أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِى غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك». والأمر الثانى حسن خلقه ورحمته حتى بالكفار وبمستقبل أولادهم. روى البخارى أن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها وأرضاها قالت أو سألت النبى صلى الله عليه وسلم قالت: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادانى فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فنادانى ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، «والأخشبان جبلان فى مكة» فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا. وللحديث صلة والله الموفق.