رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تكدير السلم العام.. فى تاريخ الصحافة المصرية


«تكدير السلم العام».. «تكدير الصفو العام».. هذه هى أشهر تهمة يتعرض لها الصحفيون فى جرائم النشر، النص قديم فى قانون العقوبات المصرى، والتهمة مطاطة ونسبية وتقديرية، ورغم ذلك، لم يتغير النص فى كل التعديلات التشريعية، التى طرأت على قانون العقوبات، ولم تزل سيفا مسلطا على حرية الصحافة، منذ أكثر من مائة سنة، ولعل أشهر دليل على مطاطية الجريمة هو أن سلطة الاحتلال البريطانى طالما استخدمتها للتنكيل بالصحفيين الأحرار، طوال عقود الاحتلال البريطانى لمصر، وأشهر القضايا فى هذا الصدد حدثت قبل 120 سنة، حين قدم الشيخ «على يوسف» رئيس تحرير ومؤسس صحيفة «المؤيد» للمحاكمة بتهمة تكدير السلم العام وإثارة الذعر والفزع بين الناس، أما السبب، فهو أن الصحيفة نشرت مانشتا يفيد بأن وباء الكوليرايتفشى بين جنود الجيش المصرى فى السودان، وأن عددا كبيرا من الجنود ماتوا وأن السلطات البريطانية تتكتم على الكارثة!

ونشرت الصحيفة صورة زنكوغرافية لبرقية مرسلة من «اللورد كيتشنر» قائد الجيش المصرى فى السودان إلى مركز القادة فى القاهرة، أفادت التحريات التى قامت بها السلطات البريطانية، بأن على يوسف حصل على صورة البرقية، من موظف بمصلحة البريد اسمه «توفيق أفندى كيرلس» وكان رجلا وطنيا، غير أن على يوسف رفض إفشاء مصدره، وأنكر صلة توفيق كيرلس بهذا الأمر.

وفى تحقيقات النيابة، قال على يوسف، إن نشر الخبر على ما يحمله من أسى وفزع، أفضل من تكتم السلطات البريطانية عليه، بل أدعى لأخبار الشعب بالحقيقة، لئلا تستمر السلطات البريطانية فى تقاعسها وأهمالها للجنود المصريين، وأن تبادر بعمل إجراءات صحية وقائية واحترازية، وتحاسب المسئولين عن هذه الكارثة التى حلت بالجنود جراء إهمال الرعاية الصحية وقال إن التعتيم على الخبر جريمة تؤدى إلى ارتفاع عدد الضحايا، ومن ثم انتشار الشائعات، وما يترتب عليه من إثارة الفزع الحقيقى، بينما نشر أسماء الضحايا، فى صحيفة المؤيد، وإن أصاب أهالى عشرات الضحايا بالأسى والحزن، إلا أنه قد طمأن أهالى آلاف الجنود الذين لم يصبهم الوباء بعد.

وبعد سماع أقوال على يوسف وتوفيق كيرلس، قرر وكيل النيابة الشاب حفظ التحقيق، لاقتناعه بمرافعة على يوسف، فما كان من سلطات الاحتلال إلا أن ضغطت على وزير الحقانية، للتنكيل بوكيل النيابة الشاب الوطنى، فتقرر نقله إلى الصعيد، وإعادة التحقيق فى القضية.

ورفض وكيل النيابة الشاب حينئذ «محمد فريد» قرار النقل وقدم استقالته احتجاجا على التنكيل وكانت هذه الواقعة سببا فى انضمامه للحركة الوطنية، والتحاقه برفيقه الزعيم الوطنى مصطفى كامل، ووفقا لما ذكره الأستاذ أحمد بهاء الدين فى كتابه أيام لهل تاريخ، فإن محكمة الجنايات قضت بحبس على يوسف ثلاثة أشهر، إلا أن الحكم سقط فى الاستئناف، وبعد لحظات من صدور البراءة هجم الجمهور على قفص الاتهام، وحملوا على يوسف فوق الأعناق، وخرجوا فى مظاهرة بباب الخلق.

وهكذا فإن قضية نشر ظالمة، كانت سببا فى تفجر النوازع الوطنية لدى وكيل النيابة الشاب، الذى أبى عليه ضميره الوطنى، أن يلبس اتهاما لأبرياء انصياعا لرؤسائه، أو هكذا بدأت قصة نضاله ضد الاحتلال وكفاحه فى قضية الوطن الكبرى لأجل الاستقلال، وهى القضية التى قدم بسببها للمحاكمة بذات التهمة وهى تكدير السلم العام، والحض على كراهية الحكومة «حكومة الاحتلال» بسبب مقدمة لديوان شعر للشاعر «على الغاياتى» وكانت المقدمة بعنوان «أثر الشعر فى تربية الأمم» وهو الديوان الذى قدم بسببه للمحاكمة الشيخ عبد العزيز جاويش، أيضاً للمحاكمة وقضى فريد بسببه عقوبة السجن لستة أشهر، رافضا تقديم التماس للخديو بالعفو عنه، مؤثرا البقاء فى السجن على الخروج بعفو من سلطة خاضعة للاحتلال البريطانى، بل إنه حين قبض على جاويشوالغاياتى كان محمد فريد فى بروكسل وتلقى رسالة من ابنته «فريدة» تطالبه بالعودة والمثول للمحاكمة، وهو ما كان.

أما الشيخ على يوسف فأول مصرى صميم يؤسس صحيفة يومية كبرى، وضم إلى صفوفها أبرز الكتاب والسياسيين مثل سعد زغلول، وقاسم أمين ومصطفى لطفى المنفلوطى والزعيم مصطفى كامل، وكانت «المؤيد» فى مواجهة صحيفة منافسة أخرى هى «المقطم» الموالية للاحتلال، والمموله من السلطات البريطانية والتى كانت تنشر الأحكام القضائية قبل النطق بها فى المحكمة!، فقد شغل الرأى العام المصرى لعدة شهور فى قضية أخرى وهى زواجه من ابنة أسرة عريقة دون موافقة أهلها، كان الشيخ على يوسف قد تقدم لخطبة ابنة السادات فى عام 1900 غير أن الأب ظل يماطل فى عقد القران لمدة أربع سنوات، على أمل أن تفسخ الابنة الخطوبة من تلقاء نفسها، إذ لم يكن الأب راضيا على الزيجة بسبب عدم التكافؤ الاجتماعى، فما كان من الابنة «صفية» إلا أن هربت وعقدت قرانها على الشيخ على يوسف وعلم الأب بأمر الزواج من خبر نشرته صحيفة المؤيد، فقدم بلاغا للنيابة يتهم فيه الشيخ على يوسف باختطاف ابنته، وأكراهها على الزواج، غير أن الابنة أقرت بأنها تزوجت بكامل إرادتها، لأنها لم تعد قاصرا فحفظت النيابة البلاغ، غير أن الأب لم يسكت ورفع دعوى قضائية أمام المحكمة الشرعية يطالب فيها ببطلان الزواج لعدمالتكافؤ، فكيف بسليلة الحسب والنسب أن تتزوج بشخص لا حسب له ولا نسب؟

ومن أطرف ما قاله فى صحيفة دعواه وفقا لما رواه «أحمد بهاء الدين» فى كتابه «أيام لها تاريخ أن زوج ابنته «يمتهن مهنة الجرائد.. وهى أحقر المهن.. وعار عليه!

هكذا كان ينظر البعض لمهنة الصحافة الجليلة فى مطلع القرن الماضى، وهى المهنة التى ناضل أهلها للتحرر من الاستعمار ونادوا للاستقلال، وكانت دائما ضمير الوطن ولسان حال المستضعفين والمقهورين، وقدمت للمجتمع عمالقة الأدب والفكر، مثل: طه حسين وقاسم أمين والعقاد ومحمد حسين هيكل.

ومن الغريب أن المحكمة الشرعية قضت بفسخ عقد الزواج والتفريق بين الزوجين، وأيدت محكمة الاستئناف الحكم، تأسيساً على أسباب طبقية طريفة، هى أن الشيخ على يوسف سليل أسرة فقيرة، وأن الثراء الذى حققه مؤخرا، لا يمحو عار الفقر الذى سبق وأن لحق به!!

ترى هل انتهت القصة بالتفريق بين الزوج وزوجته؟

كلا.. فقد وافق الأب بعد وساطات على زواج ابنته بالشيخ على يوسف مرة أخرى ولكن.. بعقد زواج جديد.. لأن المثل يقول: إن العند يورث الكفر.

كان الشيخ على يوسف هو أول مصرى صميم يصدر صحيفة يومية كبرى ويرأس تحريرها، كانت صحيفة المؤيد تضم بين كتابها الزعيم الوطنى سعد زغلول والزعيم مصطفى كامل وقاسم أمين محرر المرأة، ومصطفى لطفى المنفلوطى، وقد صدرت المؤيد، فى مواجهة «المقطم» التى كانت تتلقى دعما من سلطات الاحتلال لدرجة انهه كانت تنفرد بنشر الاحكام القضائية قبل إعلانها فى قاعة المحكمة.. وتلك قصة أخرى!