رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإدارة السياسية .. «بالأمر المباشر»


هذه نقطة نظام فى الجدل الدائر حول «تيران وصنافير» والذى تحول إلى صراخ وضجيج وعجيج، بين النخبة السياسية والثقافية. وتطور إلى تبادل اتهامات بين التهاون والتفريط، وبين التهويل والتشكيك وزعزعة استقرار الوطن وبدا المشهد أننا بصدد مزايدات علنية، ومناقصات عامة على المصلحة الوطنية من دون سقف، حتى طالت الاتهامات الجميع دون استثناء، الذين أيدوا أحقية السعودية فى ملكية الجزيرتين، والذين اعترضوا ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية.

الاتهامات والملاسنات «طالت الذين أيدوا والذين عارضوا»نتيجة شيوع ثقافة التخوين، وإصدار أحكام القيمة المطلقة، على قاعدة ديماجوجية لا على قاعدة عقلانية وموضوعية ونسبية..وتلك هى الأزمة الحقيقية التى تواجه المجتمع.

والواقع أنه لا الذين أيدوا أحقية السعودية فى ملكية الجزيرتين فرطوا فى تراب الوطن، ولا الذين عارضوا خونة وعملاء، فلا أحد يشك لحظة فى وطنية الذين أبرموا الاتفاق، ولا الذين يعارضونه، لأن القضية خلافية وملتبسة، والخلاف بين الفريقين يطال شرائح واسعة من المجتمع، ولو سلمنا بما يطلقه الطرفان من اتهامات، فنحن بصدد أمة «ماشوسية» مريضة، تدمن جلد ذاتهاوتعذيب نفسها.

كيف نتهم الذين أيدوا الاتفاقية بالتفريط فى تراب الوطن، وبينهم شخصيات وطنية من وزن شيخ المؤرخين المصريين «د.عاصم الدسوقى»عضو لجنة استرداد طابا؟.

وكيف نتهم الذين عارضوا الاتفاقية بالخيانة ومنهم شخصيات وطنية مثل الخبير القانونى الدولى «د.نور فرحات»؟ .وثمة أسئلة فى المقابل:

هل يمكن أن يزايد أحد على وطنية الرئيس السيسى فى مسألة تتعلق بتراب الوطن وأمنه القومى ؟ بالقطع هذا مستبعد ومستحيل. إذن فلتكن هذه نقطة البداية وليكن هذا سقف الجدال، وليكن الحوار موضوعياً ومحصورا فى الوضع القانونى للجزيرتين وليأخذ كل ذى حق حقه، دون اتهامات لا بالتفريط، ولا بالتهييج والتخوين. مع الأخذ فى الاعتبار أن تقدير المصلحة العليا للبلاد ليست حكراً على أحد. إنما هو حق للجميع.ونأتى لما هو موضوعى، ونلاحظ أن بعض المواقف المعارضة تنطلق من نوايا وطنية مثالية ومخلصة،لكنها غير مدركة الدور السعودى، كظهير قوى لمصر فى مواجهة التحالفات المضادة، والحصار الاقتصادى شمالاً، والمائى جنوباً، والزحف الإرهابى شرقاً وغرباً.وقد رأينا أثر هذا الدور فى الضغوط السياسية والدبلوماسية التى مارستها «الرياض» على بعض العواصم الغربية للاعتراف بثورة 30 يونيو، واختراق الحصار السياسى الذى واجه مصر بعد سقوط دولة الإخوان. والهجوم السياسى المضاد الذى شنته الرياض على الإدارة الأمريكية فى واشنطن. وتلك مواقف يجب ان تؤخذ فى الاعتبار. ليس بالتخلى عن سيادتنا عن الجزيرتين، إذا كان حقنا فى ذلك مشروعاً، ولكن بتوخى الحكمة فى اختيار مفردات لغة الخطاب بمعنى أن قضية تيران وصنافير هى خلاف بين أشقاء، لا صراع بين أعداء. وفى الموضوع أيضاً فإن بعض القوى المعارضة لعودة الجزيرتين للسيادة السعودية لا تنطلق من موقف قانونى عادل وإنما من «موقف ثقافى» مبدئى ومسبق، رافض ومستريب من أى تحالف استراتيجى مع السعودية تحديداً، لأسباب تتعلق بالثقافة المؤسسة للتطرف الدينى، والتى تتصادم وتتناقض مع ثقافة الحداثة، وتلك نظرة مثالية متعسفة وغير واقعية بكل المقاييس السياسية، ففى السياسة أنت تختار حلفاءك السياسيين وفق مصالح مباشرة، ووفق ما تمليه موازين القوى وقوانين الحركة وطبيعة الصراع وظروف اللحظة التاريخية وطبيعة التحديات وحجم المخاطر والتهديدات،وليس وفقق مقاييسك الثقافية وقيمك الأخلاقية، وإلا فلن يكون لك حلفاء... فى الحرب العالمية الثانية، تحالفت الاشتراكية الشيوعية مع الإمبريالية الرأسمالية، فى مواجهة الاشتراكية النازية، لأن خطر النازية كان أكبر من التناقض الثقافى والأيديولوجى بين الكتلتين الشيوعية والرأسمالية فى تلك اللحظة التايخية.

وفى لحظتنا التاريخية الراهنة من العبث استبعاد السعودية كحليف استراتيجى وقوة إقليمية فى معادلة موازين القوى بالمنطقة، تأسيساً على التناقض الثقافى وحده، السياسة تقتضى الاحتواء، والانطلاق من قاعدة مصالح مشتركة.السؤال الآن:

لماذا تحول أمر الجزيرتين إلى أزمة؟ ولماذا تحول الخلاف إلى خناقة فتحت باب المزايدات السياسية والمناقصات الوطنية؟

السبب هو إعفاء السياسة من الخدمة، وتعامل الحكومة مع مصير الجزيرتين، بطريقة محض بيروقراطية وبنظام نقل ملكية شركتين فى الشهر العقارى، وصدور القرارات السياسية الخطيرة بقانون «الأمر المباشر»، ونظام الصدمات الكهربية، بينما كان الأمر يستوجب آليات سياسية، منذ اللحظة الاولى كى يكتسب الموقف القانونى شرعية وطنية بمشاركة المالك الأصلى وهو الشعب، وإشراكه فى المسألة، منذ اللحظة الأولى، وطرح جميع الوثائق والخرائط، على الرأى العام.. والتمهيد لأمر إعادة ترسيم الحدود، ورد الجزيرتين للمالك الأصلى بشرح وافٍ للقصة التاريخية مدعوماً بشهادة خبراء القانون الدولى ووثائق وخرائط إذ لا يكفى التوكيل الحكومى وحده لإقناع الرأى العام بسلامة تصرفه فى جزء من الأرض المصرية مهما كان الموقف قانونياً ودستورياً

لقد صدر بيان الحكومة برد الجزيرتين للسعودية، بينما الناس تعلم أنهما مصريتان، وعلى حين بغتة، ومن دون أى تمهيد، وبما يبعث برسالة سلبية هى الاستخفاف بالرأى العام، غياب السياسة تبدى كذلك فى سوء تقدير التوقيت إذا ترافق وإعلان موافقة الحكومة على استرداد الجزيرتين مع حزمة المساعدات المالية الكبيرة التى قدمتها السعودية لمصر، بحيث يستحيل عدم الربط بين الأمرين، مهما خلصت النوايا، وهى مخلصة بالقطع، الأمر الذى فتح باباً للتأويل والأسئلة المشروعة من نوع ما هو وجه العجلة. وهل ثمة ضرورات عاجلة تحول دون التأجيل ولو لبضعة شهور؟ وهل ثمة مخاطر من تأجيل اتفاقية عودة الجزيرتين للسعودية؟ وما هذه المخاطر؟.

ولعل ما زاد الأمر تعقيداً، هو التصريحات الصادرة عن تل أبيب ومفادها أن اتفاقية عودة الجزيرتين وترسيم الحدود بين مصر والسعودية حازت على موافقة أمريكا وإسرائيل، وأن الأخيرة حصلت على ضمانات سعودية بحرية الملاحة فى مضيق تيران.. أى أن ترتيبات قد جرت فى الأسابيع الأخيرة تمهيداً لنقل السيادة المصرية على مضيق تيران إلى السيادة السعودية!

وبما يلقى ظلالاً من الشك بأن الأمور قد حسمت دولياً من قبل أن يناقشها البرلمان، بوصفه ممثلاً للشعب المصرى «الشقيق»!