رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحكومة البيروقراطية..والحكومة السياسية


رب ضارة نافعة.. التصريحات التى أدت للإطاحة بوزيرى العدل السابقين قبل التعديل الوزارى الأخير، كشفت وغيرها من تصريحات الوزراء الصادمة عن أننا بصدد ظاهرة تستوجب إعادة النظر بصورة جذرية فى معايير ومواصفات اختيار الوزراء، وأهمها الخبرة السياسية كمسوغ رئيسى ومعيار أساسى لشغل هذا المنصب وفقاً لـ«الجوب دسكربشن» فالسياسة هى: «فن إدارة الشعوب»، وهى مهارة التواصل مع الجماهير، وفن إقناع الرأى العام، ومعرفة «ما يقال».. و«ما لا يقال»، وقد ثبت باليقين أن كل المشاكل والأزمات التى تمر بها البلاد ناجمة عن إقصاء السياسيين عن المنصب الوزارى، وإعفاء السياسة من الخدمة على مدى العقود الأخيرة، التى اعتمدنا فيها على «حكومات بيروقراطية» أطلقنا عليها -بطريق الخطأ- حكومات «تكنوقراطية» وأسندنا فيها الحقائب الوزارية لـ«مدرسين» فى الجامعة، أو لكبار موظفين، فى الديوان الحكومى».وهؤلاء وأولئك، لم يمارسوا العمل السياسى فى حياتهم، وليس لديهم خيال مبدع، ورؤى كلية، تمكنهم من وضع بدائل وخيارات للمشاكل والأزمات التى تواجه البلاد، الطارئ منها والآجل فى التعليم والصحة والزراعة والصناعة وغيرها من القطاعات، فضلاً عن إقصاء خبراء الاقتصاد الميدانيين، من رجال الأعمال، أصحاب التجارب الاقتصادية الناجحة، والاعتماد على كبار الموظفين، أو أساتذة الجامعة النظريين، كوزراء لـ«المجموعة الاقتصادية».

وليست هذه دعوة لإعفاء الخبراء الفنيين من صناعة القرارات ووضع السياسات، ولكن المعنى هو ضرورة إعادة الاعتبار للسياسة، وإعادة وضع العربة وراء الحصان وليس أمامه، وإعادة تسليم عجلة القيادة لوزراء سياسيين، لأنهم أكثر جرأة على اتخاذ القرارات، وأكثر شجاعة فى أعمال روشتة الخبراء، وأكثر وعياً بأجندة الأولويات. وأهمها القيام بثورة تشريعية، وإجراءاتجذرية، لضرب البيروقراطية التى تعوق تدفق الاستثمارات، والتى فشلت على مدار سنوات حتى فى تطبيق الشباك الواحد، رغم أننا حفرنا قناة السويس الموازية فى سنة واحدة.

ولعله قد آن الأوان رغم التعديل الوزارى الجديد الذى صدر أمس أن نعيد النظر فى فلسفة التشكيل المقبل للوزارات فنغير المنهج القديم، ونشرع فى تحويل مجلس الوزراء من «جهاز حكومى»بيروقراطى لا يتحرك إلا بتعليمات فوقية، وكما اختزل وظيفته «يوسف والى» ذات يوم فى تصريح شهير «كلنا سكرتارية للرئيس».. إلى «جهاز سياسى» مبدع ومنتج وفاعل، يساعد الرئيس فى إحداث التغيير المطلوب والتقدم المنشود القائم على أفكار جديدة من خارج صندوق ديوان الحكومة البيروقراطى، الذى يعمل بطريقة «تابع ما قبله» وقد يقول قائل: وهل يكون وزير العدل سياسياً؟ والإجابة ولم لا؟ ولنا فى أعرق التجارب الديمقراطية أسوة، فوزير العدل البريطانى، فى حكومة المحافظين الأخيرة «مايكل جوف» لم يكن قاضياً، ولا درس القانون، لكنه درس اللغة بجامعة أكسفورد، وعمل صحفياً بصحيفة «تايمز» ووصل إلى منصب مساعد محرر، والوزير السياسى لا يلغى الخبير «التكنوقراطى»، لكنه الأكثر قدرة على تفعيل توصياته، وترجمة أفكاره، وتحويلها إلى سياسات وتشريعات وخطط وآليات، فالوزير السياسى، بمثابة القاطرة التى تسحب القطار، وهو الحصان الذى أمام العربة وليس خلفها.

فكل القطاعات تحتاج رؤية سياسية، والرؤية السياسية لـ «العدل» مثلاً فى بريطانيا لا تقتصر على سيادة القانون ولكنها تنسحب على مفهوم عام وشامل يمتد إلى مصالح الشعب العليا فى الاتفاقيات الدولية، ومن هذا المنطلق فإن وزير العدل البريطانى يقود حملة هذه الأيام لانسحاب بلاده من الاتحاد الأوروبى، لأنه يعتقد أن العدل الاقتصادى فى بلاده هو الخاسر، طالما استمرت بريطانيا فى عضوية الاتحاد الأوروبى.

المعنى أن الحكومة السياسية هى الأصل فى النظم الديمقراطية، والحكومات التكنوقراطية هى الاستثناء، وحتى وزراء الحكومات التكنوقراطية فى الغرب المتقدم، جاءوا بخلفيات سياسية، ولا تعوزهم الثقافة السياسية بحكم طبيعة المجتمعات الديمقراطية. المقارنة بالقطع صعبة بين «الديمقراطية البرلمانية» العريقة فى بريطانيا، والتى هى «ملكية دستورية»، وبين الديمقراطية.. الوليدة فى مصر والتى كتب عليها أن تولد مبتسرة، وتظل فى الحضانة «حضانة السلطة» رغم مرور 150 عاماً على تأسيس «مجلس شورى النواب»، أول مجلس نيابى فى تاريخ مصر، ورغم التجربة الليبرالية بين ثورتى 19و 52 فليس المطلوب أن يكون وزير الداخلية شخصية سياسية كما فى بريطانيا وغيرها من الدول المتقدمة، ولكن المطلوب على الأقل أن يكون رئيس الوزراء سياسياً، لضمان الحد الأدنى من الكفاءة للتعامل فى مواجهة المشكلات والمطبات السياسية الطارئة، كمشكلة مقتل الطالب الإيطالى «روجينى»، وسقوط الطائرة الروسية فى سيناء، وملف سد النهضة، وأن يعرف كيف يخاطب المجتمع الدولى، أو على الأقل كيف يخاطب الشعب المصرى، فلا يصيب الناس بالفزع، حين يبشرهم بـ«إجراءات وسياسات اقتصادية مؤلمة»..أو على الأقل يعرف متى يتكلم، وأهم من ذلك أن يعرف متى يصمت!

لقد غاب البعد السياسى والقرارات الاستراتيجية فى التعليم والصحة والزراعة والصناعة والتجارة والإسكان، جراء الحكومات البيروقراطية التى تعمل بشعار «تابع ما قبله»، و«ليس فى الإمكان أبدع مما كان»!

وفيما يبدو أننا لن نتخلص بسهولة من تراث مبارك الذى جرف السياسة وجفف منابعها، وكرس لمنهج الحكومات البيروقراطية، منزوعة السياسة، واخترع نظرية الوزراء السكرتارية، لدرجة أن أحد وزراء الإسكان فى السنوات الأولى من حكمه، وقف ذات يوم يدافع عن نفسه، فى طلب إحاطة أمام مجلس الشعب، ويقول فى نهاية مرافعته، وكأنه يدفع عن نفسه تهمة مشينة: أنا راجل «ما بفهمشى فى السياسة».. أنا راجل بتاع خرسانة مسلحة.. وطوب وأسمنت و..زلط!.