رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نافذة السقف الزجاجية

كل الأبواب فى هذا البيت تقوده إلى الداخل، يهرول بين الطُرقات عابرًا من حجرة لأخرى، يحاول استعادة التفكير بالخطوة الأولى التى انتقلت فيها قدماه من الشارع إلى هنا، يقفز بذاكرته إلى الوراء؛ عله يعثر على لحظة الإغواء الأولى التى نجحت فى جرِّه من بين الناس لتلقيه وحيدًا بين الممرات. يتخيل شكل المدخل الاستثنائى الذى يربط بين العالمين، حين يصل إلى تشكيل صورة تقريبية له فى خياله يتجلى أمامه، فيصيح فرحًا: «ها هو الباب الرئيسى أخيرًا»، لكن المفاجأة تطعن أمله بأربعة جدران عالية جديدة. 

أى حيرة؟! ساعات من اللف، والدوران.. من الاستغاثة، والتضرع، والخوف. ربما كانت أيامًا. من يدرى بالوقت الحقيقى وهو يعيش هنا تحت أضواء بيضاء اصطناعية، لا يرى شمسًا ولا قمرًا ولا سماءً؟ متى دخل بقدميه أصلًا إلى هذا المكان، واستسلم للنظافة والجمال الفائقين للأرضيات، والحوائط، بل مدَّد جسده أحيانًا على الفرش الجديدة وفرح بهذا الجمال المجانى؟ هل هذا متحف؟ مستشفى؟ مدرسة لتعليم شىء خاص لا تنجح فيه تلك المدارس المكتظة بالأجساد، والصياح، والأبواب والشبابيك المخلوعة من أُطرها الخشبية؟ 

عشرات المرات يهتف: «هذا الباب يشبه الذى دخلت منه منذ قليل»، لكنه يُسلمه إلى الداخل مرَّة إثر مرَّة، بل إن الحجرات الجديدة كانت لها شخصياتها المختلفة. فى إحداها تحرك حائط باتجاهه، وربما بعد قليل يحتضن جداران بعضهما بعضًا بعد فراق إجبارى بيد البشر، فتُهشَّم ضلوعه. حجرة أخرى أُغلق بابها ولم يستجب ليديه فيُفتح، لكن عقبًا أسفله كان يشكل طريقًا للهرب. دس رأسه كالفأر، لكن الحيوان ذا الجسد اللين الذى ظهر فجأة إلى جواره مرَّ بسهولة، أما عظام جسده فأعاقته عن النفاذ منه.

فقدان الصبر هنا ربما يعنى الموت، أو الإقدام عليه بشجاعة، لكنه لا يموت. خيطٌ رفيعٌ يُلقى إليه كل مرة فى اللحظة الأخيرة؛ ليعيد المحاولات، ليستمر بالسعى، فالحركة تقاوم حركة البيت نفسه، وتُبْسط طريقًا جديدًا تحت قدميه. كان الخيط الأخير صوت أنثى، والنور صورتها داخل مرآة معلقة على الحائط. قالت: «خذ ما تشاء قبل أن تغادر، فلن تُتاح لك فرصة ثانية». 

نسى قلقه للحظات. بيديه الاثنتين وبلهفة أخذ يجمع أشياءً فاخرة وثمينة. لو نجا من قصر المتاهة هذا سيصير من أثرياء البلدة. كانت الجميلة تضحك، تدور حوله، وحين انتهى من جمع كل ما يقدر على حمله تحولت إلى عصفور، ثم فراشة، ثم فيونكة قماشية صغيرة، ثم مفتاح طار فى الهواء، فقفز وأمسكه بين أسنانه؛ لأن يديه كانتا، الآن ورغم كل ما هو فيه، ممتلئتين بالأشياء التى سطا عليها من الخزائن المفتوحة والدواليب. قال صوت آخر: «لا تُضيِّع الدليل، مُرشدة القصر هى الضامن الوحيد لخروجك». 

عاود المرور من باب إلى باب، والمفتاح الفتاة فى فمه. عاود التعلق بالسماء الصغيرة التى تظهر من نافذة زجاجية عالية. هو الآن قلقٌ وحزينٌ وضائعٌ. يتخبط بين الأبواب والجدران العالية باحثًا عن مخرج فى أبهاء باهرة وباذخة كان يتمنى امتلاكها من قبل ولو فى أحلامه، لكن.. ما الأحلام إلا الطُعم فى سنارة الصيد!