رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من صور العدل فى الإسلام


تروى المصادر المعتبرة فى الإسلام الكثير عن القاضى شريح. هو تابعى أسلم فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يلتق  بالرسول عليه الصلاة والسلام. وجاء المدينة فى خلافة أبى بكر الصديق. تولى القضاء زهاء ستين عاماً وأول من ولاه القضاء هو الفاروق عمر رضى الله عنه وأرضاه، وجاء فى أسباب توليته القضاء قصة طريفة. تقول القصة:

اشترى عمر رضى الله عنه فرساً من رجل من الأعراب وأعطاه ثمنه،وعندما ركب عمر صهوة الفرس ومشى به إذا بالفرس لا يستطيع أن يسير لوجود عيب فيه. فرجع عمر إلى الرجل وقال له خذ فرسك فإنه معطوب. فقال الرجل يا أمير المؤمنين، لا آخذه لأننى بعته لك وهو سليم. فقال عمر اجعل بينى وبينك حكماً. فالتفت الرجل وقال يحكم بيننا شريح بن حارث الكندي، فقال عمر رضيت به. فذهب عمر مع صاحب الفرس إلى شريح، ولما سمع شريح مقالة الأعرابي،التفت إلى عمر وقال له هل أخذت الفرس سليماً يا أمير المؤمنين..؟ فقال عمر: نعم. فقال شريح احتفظ بما اشتريت أو ردَّه كما أخذت.

بعد أن سمع عمر هذا الكلام نسى قضية الفرس، وقال متعجباً: وهل القضاء إلا هكذا؟ قول فصل وحكم عدل. ثم قال: سر يا شريح إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها. ولما ولاه عمر قاضياً على الكوفة كان شريح معروفاً، وكانت له مكانة بين الصحابة والتابعين، وكانوا يقدّرون عقله ودينه وخلقه الرفيع وذكاءه وطول تجربته فى الحياة وعمقه فيها.

استمر شريح فى القضاء فى زمن عمر ثم فى زمن عثمان ثم على ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ومروان وغيرهم. إلى أن جاء الحجاج ورأى شريح أن أحكامه لا تطبق فطلب الإعفاء من القضاء. كان عمره عندما أعفى من القضاء مائة وسبع سنوات رحمه الله تعالى. لقد تولى القضاء وعمره سبع وأربعون سنة وبقى ستين سنة قاضياً. قصصه فى القضاء أكثر من أن تحصر، وهى توضح عدله وذكاءه وفطنته، فى ظل خلفاء يمتازون بالعدل والإنصاف وتطبيق الشريعة.

من هذه القصص، أن علياً بن أبى طالب رضى الله عنه  فى ظل خلافته فقد درعاً وكانت غالية وعزيزة على نفسه. وفى يوم من الأيام وجدت هذه الدرع فى يد ذمى من أهل الكوفة يبيع الدرع فى سوق الكوفة. فلما رآها على رضى الله عنه وأرضاه، عرفها فقال هذه درعى سقطت عن جمل لى فى ليلة كذا فى طريقى إلى صفين. فقال الذمّى بل هى درعى يا أمير المؤمنين وفى يدى فكيف تدعى أنها لك. قال على إنما هى درعى لم أبعها لأحد ولم أهبها لأحد فكيف صارت لك...؟ قال الذمّى بينى وبينك قاضى المسلمين دعه يحكم بيننا، فقال على أنصفت  فهلمّ إليه. انظروا أيها القراء، إلى القضاء بين الخليفة والذمى . جلس الأمير على والذمى فى مجلس القاضى شريح، فلما صارا عنده فى مجلس القضاء قال شريح لعلى ما تقول يا أمير المؤمنين؟: فقال على وجدت درعى مع هذا الرجل سقطت منّى فى يوم كذا فى مكان كذا،وهى لم تصل إليه ببيع ولا بهبة فكيف صارت له...؟

فقال شريح للذمّي، فما تقول يا رجل؟ فقال الذمّى: الدرع درعى وهى فى يدى ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. وعلى رضى الله عنه يدعى أن هذه له، ولا بد أن يأتى بالبينة. فالتفت شريح بكل أدب إلى أمير المؤمنين على رضى الله عنه الصحابى الصادق العابد العالم ابن عم النبى صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يكذب فى دعواه، لهذا قال له شريح: لا ريب عندى فى أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين وأن الدرع درعك،ولكن لا بد لك من شاهدين يشهدان لك على صحة ما ادّعيت.

هنا قضية لابد أن نلتفت إليها،تتمثل فى أنه لا يجوز للقاضى أن يحكم بعلمه وقناعاته، وإنما يجب أن يكون مجرداً من قناعاته ومعلوماته الشخصية حتى يحكم بالدليل والبرهان. قال على نعم. إن مولاى وولدى الحسن يعرفان هذه الدرع ويشهدان لى. فقال شريح يا أمير المؤمنين شهادة الابن لأبيه لا تجوز. أى لا يجوز أن يشهدالأصل للفرع ولا العكس فى القضاء، ولا تقبل شهادة أحدهما للآخر. فقال علي: سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال شريح بلى يا أمير المؤمنين، غير أنّى لا أجيز شهادة الولد لأبيه. ثم التفت شريح إلى الذمى وقال له خذ الدرع فانها لك. فأخذ الذمى الدرع ومشى قليلاً، ثم رجع وقال: والله إنى لأشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين.

ولكن أمير المؤمنين يقاضينى عند قاض هو قاضيه، يقضى بالحكم لى عليه، أشهد أن الدين الذى يحكم بهذا لهو الحق، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. ثم قال الذمى: «اعلم أيها القاضى أن الدرع لأمير المؤمنين، فأنا تبعت الجيش وهم فى طريقهم إلى صفين، وسقطت الدرع عن جمله الأورق فأخذته. فقال له أمير المؤمنين: أما إنك قد أسلمت فإنى قد وهبتها لك، ووهبتك معها هذا الفرس أيضاً. فأخذ الذمّى الذى أسلم الدرع والفرس مسروراً بهما، ولم تمض أيام حتى شوهد هذا الذمّى يقاتل الخوارج تحت لواء على يوم النهروان، واستشهد فى تلك المعركة رحمه الله تعالى. والله الموفق.