رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

‏ملف.. «عمال التراحيل».. رجال يقهرهم الفقر والذل والاغتراب: «البلد دي مش بلدنا.. ويارب نكون زي سوريا والعراق»

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

مع كل إشراقة صباح يوم جديد، تتجدد رحلة معاناة البحث عن الرزق.. يقطعون مسافات طويلة من أقاصي الصعيد إلى ‏ميادين المحروسة، ليفترشوا الأرصفة بزيهم المميز من العمامة والجلباب الصعيدي، وأمام كل منهم عدته ‏الخاصة: «أَجَنَة وأزميل وشاكوش»، تربطهم ببعض خرقة باليه، في انتظار عمل قد يأتي.. هم عمال ‏التراحيل أو كما يطلق عليهم العموم «الفواعلية».‏

تمر الساعات الواحدة تلو الأخرى.. الجميع جالس على الرصيف، يترقب القادم إليهم بلهفة؛ علّه يكون رزقًا ‏جديدًا انتظره طويلًا، يقصدهم في تكسير حائط أو حمل مواد بناء، مقابل يومية تسد رمق أطفالهم بالكاد.‏

على أحد الأرصفة في قلب ميدان السيدة زينب، جلس شيخ العمال الخال «زكريا»، يرتدي جلبابًا ممزقًا ‏وحالك اللون، واضعًا يديه المتشققتين علي خده، يقلب بصره يمينًا ويسارًا بحثًا عن زبون طال انتظاره ‏لأكثر من أسبوع، تاركًا خلفه أبنائه وأحفاده يتضورون جوعًا.‏

حين اقتربت عدسة «الدستور» منهم، طالعتنا نظراتهم التي يغمرها الأمل، في أننا زبائن جُدد، يسارعون ‏الخطى نحونا، لكن سرعان ما تبددت آمالهم، بعدما كشفنا لهم عن هويتنا الصحفية، فخيم السكون على ‏المكان وأدار البعض منهم وجهه يختبئ من "الكاميرا"، رافضين الحديث إلينا. ‏

‏"الفقر والبؤس وأخيرًا قوات الشرطة"‏
لكن الأمل عاد بريقه مع الخال «زكريا» الذي استوقفنا ليحدثنا عن مهنته، التي توارثها عن والده، فقد ‏غادر قريته التي تقع بمحافظة قنا قبل 50 عامًا، ليكمل مشوار والده في مهنة (الفواعلية)، بعد أن أصيب ‏بإعاقة في ساقه اليمنى أفقدته القدرة علي العمل.‏

«محدش من العمال هنا اختار مهنته، لكن الفقر والبؤس هما اللي خلونا نشتغلها".. عبارات بسيطة لخص ‏بها «زكريا»، حكاية عمال التراحيل، فالقدر وضيق اليد هما الدافع لهذه المهنة، مؤكدًا أن من يمتلك ‏الأراضي الزراعية يجلس في محافظته هنيئًا بأمواله، أما من أمثاله يغتربون لأجل لقمة العيش.‏

وتابع حديثه: «حتى وإحنا مش لاقيين شغل ومرميين على الرصيف بنتعرض لمطاردات كثيرة من الشرطة، ‏اللي بتتعامل معنا كمجموعة من البلطجية والمجرمين، دا غير الحكومة اللي نايمة ومش عايزه تبذل أي ‏مجهود لحل مشاكلنا».‏

وأضاف: «أيام مبارك وقبل الثورة، الرزق كان كتير والفلوس كانت بتكفي، أما دلوقتي مفيش شغل ممكن ‏نقعد بالأسبوع من غير ولا مليم، وحتى اليومية اللي بناخدها مش بنكفي، الحياة كلها صعبة والأسعار ‏بتغلى".‏

‏"يا رب نبقى زي سوريا"
‏«جحيم بره و لا جنة بلدي».. هكذا عبر عامل آخر من هذه الفئة المهمشة، عن رغبته في السفر إلى ‏الخارج عن البقاء في وطنه، بعدما عجز عن سداد ديونه، وتوفير حياة كريمة لأطفاله.‏

وعبر عن ذلك بقوله: «لو معايا 50 ألف جنيه هسافر بره ومش هرجع للبلد هنا تاني»، ليقاطعه زميله في ‏نفس المهنة غاضبًا: «يا ريتنا نبقى زى سوريا، أهي فرصة نسافر ونهرب علي أي بلد أرحم من العذاب اللي ‏عايشين فيه».‏

التقط منه أطراف الحديث رجب أبو الخير، الذي قال: «إحنا ناس رأس مالنا صحتنا، وفي أي لحظة ممكن ‏نصاب بإعاقة وأطفالنا يبقوا في الشارع».‏

‏وأضاف «نفسنا نسافر بره عشان ولادنا ميقعدوش على الرصيف».

وسخر كامل عبد ربه، من الحال الذي وصلت إليه مهنته قائلًا: «شغلتنا ما فيهاش ‏شغل.. إحنا فيها بنتوكل على الله، بدأتها من 10 سنيين، ودلوقتي قاعد على الرصيف لا شغلة ولا مشغلة، ‏وممكن يعدي الأسبوع كله من غير ما نكسب جنيه واحد».‏

«إذا كان شباب الجامعات مش لاقيين شغل وقاعدين على القهاوي والدولة حالها تعبان».. هكذا عبر عامل ‏التراحيل عن عدم بحثه على مهنة أخرى، مؤكدًا أن حال المهنة ازداد سوءًا بعد ثورة 25 يناير، رغم أن ‏العمل كان على أشده، والطلب عليهم كثيرًا؛ ولكن عقب الثورة بات الجميع خائفًا من البناء أو الهدم بسبب ‏أعمال البلطجة.‏

أما عن أصول مهنته أوضح أنه يسافر كل شهرين من محافظة المنوفية إلى القاهرة؛ بحثًا عن العمل، ‏فيستيقظ كل يوم من السابعة صباحًا، ليجلس على الرصيف أمام هيئة الإسعاف؛ ينتظر أن يبعث الله له ‏رزقه، متمثلًا في مقاول يريد هدم حائط أو بناء سلم، إلا أن رزقه قد يتأخر لمدة أسابيع، فيعود أدراجه إلى ‏منزله شاغر اليدين أمام أولاده الخمسة في مراحل التعليم المختلفة.‏

‏«نفسي أسيب البلد دي وأسافر أي مكان تاني أكيد هيكون أحسن».. تلك هي الأمنية الوحيدة التي يريدها ‏عامل التراحيل بعدما ضاقت عليه بلاده بقلة الرزق، مشيرًا إلى أنه إذا امتلك في يوم نقودًا تكفيه ليسافر ‏إلى الكويت أو تركيا لن يتردد، هاربًا من الفقر المدقع الذي يعانيه، ليعيش كـ"إنسان".‏

ووجه "عبد ربه" حديثه إلى المسئولين، مطالبًا إياهم بالنظر إلى عمال التراحيل لانتشالهم مما هم فيه قبل ‏أن يتحولوا إلى بلطجية، متمنيًا أن يعش حياة أفضل، وألا يكون مصير أولاده مثله.. "على الرصيف".‏

‏"هنشيل الزبالة"
سيد عبدالعال، ينتمي للطبقة المهمشة لعمال التراحيل، حدثنا عن تفاصيل مهنته، بأنه يبدأ يومه مبكرًا في ‏السادسة صباحًا، يقضي يومه كاملًا على أرصفة الشوارع، في انتظار الرزق على يد مقاول أو شركة تريد ‏بناء أو هدم أحد الحوائط مقابل جنيهات قليلة، لا تكفي قوت يومه ولا يفيض منها شيء لأولاده.

وعن هذه المعاناة، تابع قائلًا: «الشغل قطاعي يوم أها وعشرة قاعدين زي الستات، بيوتنا ممكن ميدخلهاش ‏الأكل يومين وتلاتة، بقينا نشتغل أي حاجة، نشيل طوب ولا رمل، وممكن توصل أننا نشيل زبالة؛ عشان ‏شغلتنا مش مضمونة لازم جنبها شغل تاني».

‏أكد أنهم قبل ثورة 25 يناير كانوا يعملون في المنشآت التي تريد الحكومة هدمها أو إزالتها، وكان العمل ‏منتظمًا، ألا أن بعد الثورة انقلب الحال بهم من الاستمرار إلى "العمل القطاعي".‏

‏"الرشوة مقابل العمل الحكومي"
وشاركنا الحديث، عامل آخر لا تختلف معاناته عنهم، حيث أكد أنه حاول ترك المهنة والعمل في أي ‏مؤسسة حكومية بمرتب ثابت، ألا أن الأبواب كلها أغلقت في وجهه، طالبة للرشاوي، كي يصبح موظفًا في ‏الدولة، مضيفًا أنه يعمل في مهنة التراحيل إلى جانب عمله الحر، كـ«بائع» لأي شيء تقع عليه يديه.‏

ولفت إلى أن الأموال التي يحصل عليها طوال الشهر، لا تكفي أولاده، معبرًا عن ذلك بقوله: «المهنة دي ‏متجبش فلوس، ولو جابت فلوس ولادنا هيطلعوا حرامية عشان مش لاقيين ياكلوا، الفلوس اللي بنحصلها ‏في شهرين تخلص في يومين».‏

‏"خريج الأزهر على الرصيف":
‏«متعلم وخريج أزهر وقاعد على الرصيف».. كانت بمثابة صدمة لنا أن نجد أحد عمال التراحيل متعلم ‏جامعي، جالسًا على الرصيف، وهو الأمر الذي قصه علينا «محمود حامد" من مجلسه بقوله: «أنا قاعد هنا ‏من 17 سنة وحاطط إيدي على خدي، حاولت أشتغل بشهادتي في أي مؤسسة حكومية لكن مش معايا ‏واسطة، وعلى رأي وزير العدل ابن القاضي هيطلع قاضي وابن الضابط هيطلع ضابط".‏