رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"على كوبرى قصر النيل" قصة لـ يسرى أبوالقاسم

يسري ابو القاسم
يسري ابو القاسم

بينما أنا قادم من صالون ثقافي وقلبي مفعم بإحاسيس متداخلة مابين الابتسام والحزن.. ساقتني قدماي إلى كوبري قصر النيل ..أدهشني منظر الواقفين كلهم فرادى.. رجل ثم امراة ..ثم رجل ثم امراة.. حتى نهاية الكوبرى ..
كان الجو باردًا ولكن جمال القاهرة يهب دفئًا فى القلب يمحو صقيع الشتاء ..
أرسل عقلي أوامره لقدماي فتباطأت.. عند الشخص الأول الواقف على طرف الكوبري وهو رجل فى الخمسينات ..كان يحادث نفسه
ويقول : يارب ليس لي إلا أنت.. فلقد استولى أشقائي على ميراثي ..ولي بنت
أرجو لها الستر ..اللهم دبر لي أمري فإني لا أحسن التدبير ..
لاحظني الرجل فانزعج وثبت عينيه فى عيني فتخطيته .. ربما لأني خشيت
من نظرته أو لعلة أخرى لا أعرفها ..
على بعد مترين، تقف سيدة فى الثلاثينات ملابسها تؤكد رفاهيتها.. تزيل بمنديل ورقي دمعات تترقرق على خديها الناصعتين
وتقول : لم يدر بخلدي أن اقع فيما وقعت فيه .. كيف رضيت بأن أحمل فى
احشائى طفلًا لا يمثله .. المصيبة أنه سعيد بحملي هذا ياله من مسكين .. ليس للأمر
إلا حل واحد وهو الانتحار .
همت بالقفز على سور الكوبري ..فامسكت بيدها ..لكنها دفعتي بقوة ..والقت بنفسها فى النيل.. صرخت بكل ما أملك من قوة .. لكن لم يسمعني أحد.. اقتربت من الشخص المجاور لها.. فإذا به يتحدث إلى نفسه مبتسمًا وكأنه لا يراني
ويقول: أخيرًا حصلت على الماجستير وأخيرًا وافق والدها على الزواج ..ياله من يوم سعيد ..
فقلت : السيدة ألقت بنفسها فى النيل هل لك أن تساعدني لفعل شئ هل تجيد العوم .. لكنه لم يلتفت إليَّ 
توجهت إلى السيدة التى تجاوره تسمرت أمامها ..
قلت : ياعزيزتى هناك سيدة ألقت بنفسها من الكوبري 
فقالت : فعلت كل شئ لأسعده.. رقصت له وغنيت.. وهبته ما أملك وتحملت لأجله
ما لا تتحمله امراة ..وفى النهاية تزوج من امرأة أخرى
تركتها وانصرفت إلى سيارة رباعية الدفع وقفت على بعد خطوات مني.. نزل منها رجل ثري ومعه زوجته وابنه ..التقطوا صورًا كان النيل خلفيتها ..وقبل أن أنطق ببنت شفة أشار إليَّ بالصمت ونظر إليَّ باشمئزاز وكأنني مرض معدي..فانزويت ولكن عيناي تترقبه .. انتهى من أخْذِ اللقطات المطلوبة وانطلق ..
ولأول مرة ينطق لساني بسباب كتلك المرة..
توجهت الى بائعة المناديل التى تفترش الكوبري ..ومن حولها أطفالها العرايا كقطط
ضالة
فقلت : امراة ألقت بنفسها من الكوبري 
فقالت: هل تشتري مني المناديل لأطعم عيالي.. فتحرك أطفالها واحدًا تلو الأخر وأمسكو ببنطالي.. فأفرغتُ لهم ما بداخله من عملة معدنية ..وتركتهم مفزوعًا .. إلى فتاة سمراء بهية الطله.. قطعًا ستجيبني 
قلت: يا سيدتي امرأة ألقت .. قاطعتنى مبتسمه
وقالت: ليس فى الوجود أجمل من حبيبي.. ترك كل الشقراوات لأجلي.. قال لى الدنيا تسكن فى عينيك .. انتظرك حبيبي حتى تعود من عالم الخيال.. طال انتظارك فمتى يكون المجئ..
تركتها إلى العجوز التى تستند إلى عكازها ناشدتها باسم الإنسانية أن تسمعني 
فقالت: لن أذهب معك ساقيم فى الشارع .. بلغ من أرسلك أن زوجته قاسية وأنه عشق قوامها الممشوق وضحى بمن حملته .. بلغه أنه لو جاء إلى لن أعود إلى بيته .. هل أرسلك إبنى ..
بصوت متحشرج قلت: أنا لا أعرف ابنك
قالت: حين تجده أخبره بأن البرد قارس ..وإني أحتاج لدواء السكر.. والضغط و أحتاج لدقائق من الحنان الذى وهبته إياه منذ حمله ..
كانت عباراتها مميته سألتها عن اسمه أو عنوانه
فقالت : هو يعرف .. اذهب إلى أمك وقبل قدميها ولا تكن مثل ابنى ..
تركتها و أنا مهزوم جدًا.. ثم توجهت إلى رجل أربعيني يرتدي بذلة قديمة طال البعاد بينها وبين الماء ..كان  يشد نفسًا من سيجارة غير مشتعلة.. وكلما شد نفسًا قال : بلغهم أنني لن أقدر على انتظار الصفقة أكثر من ذلك .. فالوقت ليس فى صالحي.. وكما تعرف أنا رجل يقدر الوقت وهذا سر نجاحي ..
علمت أن الرجل يهزي ..وقفت على حافة الكوبري مندهشًا ..كل يحادث نفسه .. والأدهش أننى صرت أحادث نفسي بصوت عالي مثلهم .. أنادي الجميع ولا يستجيب لي أحد حتى المارة على الكوبري .. فمر عليَّ شاب وبدأ يتفحصني ثم قال: لا حول ولا قوة الا بالله ..
فقلت: ياسيدي لست مجنونًا ..أنا عاقل..أنا عاقل ..
فقال: إذا أردت أن تثبت أنك مجنونًا ..قل كثيرًا أنا عاقل. تركني وانصرف ثم عاد ووقف على بعد خطوات مني وبدأ يحادث نفسه . . تمت