رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سيد جلال".. البرلماني الأسطورة

سيد جلال
سيد جلال

لم أكن أتخيل أبدًا، أن زيارتي القصيرة لمستشفى "سيد جلال"، الكائن بحي باب الشعرية؛ للاطمئنان على أحد الأصدقاء، امتثالًا لتعاليم الشرائع، ومبادئ الإنسانية.. لم أكن أتخيل، أنها ستتحول إلى رحلةٍ جميلة، غُصنا فيها في أعماق "سيد جلال" رحمه الله، وسبحنا في بحر أعماله، ومحيط منجزاته، وتذوقنا حلاوة كلامه، وعطرنا أنوفنا بمسك أخلاقه.. فهيا بنا لنشارككم هذه الرحلة، ولنقص عليكم أحسن القصص.

البداية، حينما استقللت أتوبيسًا، من ميدان رمسيس، متوجهًا للمستشفى، وكعادتي وعادة معظم المصريين، ذهبت للمستشفى، دون معرفة عنوانه، مقتديًا بالمثل الشعبي: «إللي يسأل مايتوهش».. وبالفعل سألت شابًا جالسًا على مقعدٍ مجاورٍ لي عن عنوان المستشفى؛ حتى لا أضل الطريق، خاصةً مع هذا الزحام الفج، سواء داخل الأتوبيس، أو خارجه على الطرقات.. وكان جواب الشاب ينم عن زهوٍ وغرور، يتسم بهما، إذ قال ساخرًا: "هو حد مايعرفش مستشفى سيد جلال فين؟".. فاستشاط غيظي إثر هذ الرد، ولم يهدأ من روعي إلّا مداخلة رجلٍ أنيق، يجلس بجوارنا، في الصف المواجه، ووجه كلامه للشاب قائلًا: "ليس العيب والجهل في معرفة مستشفى سيد جلال من عدمه.. إنما العيب الحقيقي، والجهل الفاضح، هو عدم معرفة تاريخ هذا الرجل، الذي استحق، وبحق، لقب شيخ البرلمانيين المصريين عام 1984، ومازالت أعماله الخيرية شاهدة على فضائله إلي اليوم".. هنا ساد الصمت المكان، وصمت الشاب تمامًا، كأنه جدار، فتأكد لي أن هذا شاب سطحي، ممن ابتلينا بهم في هذه الآونة، فيدّعي معرفة كل شيء، وهو في الحقيقة يجهل كل شيء.

اخترق جدار الصمت، سؤال وجهته مباشرة للرجل، الذي تبين أنه يسمي د.مصطفى محمود، ويعمل باحثًا في التاريخ الحديث والمعاصر.. فقلت له: "وهل من الممكن أن تلقي الضوء على بعض الجوانب من حياة هذا الرجل؟ فقد زاد شغفي بمعرفة أي شىء عنه".. فقال الدكتور: "على الرحب والسعة". وحدثنا الدكتور قائلًا: "لقد أسعدتنا محافظة أسيوط بإنجاب هذا الرجل، كما أسعدتنا قبل ذلك بإنجاب الإمام السيوطي، وحافظ إبراهيم، ويوسف السباعي، والبابا شنودة، وغيرهم، ونشأ في بدايته نشأة الطفل في قريته وقتئذٍ، فالتحق بالكتاب، وحفظ القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والحساب، ولكن بعد بضع سنوات من مولده، فقد أبويه، وأصبح يتيما، بل «لطيمًا»- كما يقول أهل اللغة-، ثم انتقل للقاهرة مع أحد أقاربه للعمل، والبدء من تحت الصفر كما يقولون، فعمل بأحد المخابز.. هنا قاطع الدكتور طالب جامعي، كان منصتًا لحديثه وقال له: "لكن يا دكتور، أستاذ التاريخ قال لنا في الثانوية العامة: سيد جلال كان يعمل حوذيًّا، أي عربجيًا".. فشكره الدكتور على إضافته، وقال له: "هذا ليس تضاربًا في القول، بل دليلًا على عزم هذا الرجل على ألّا يأكل إلّا من عملٍ حلال، حتى وإن كان بسيطًا".

فكررت سؤالي للدكتور: "أكمل يا دكتور حتى أعرف كل شيء قبل أن أترك الأتوبيس؟".. فضحك وقال لي: "لا تقلق.. إن الأتوبيس سيصل بعد ساعتين، نحن في مصر.. أرض الزحام، وبلد السائقين اللئام". واستطرد الدكتور قائلًا: "انتقل سيد جلال للعمل بعد ذلك إلى ميناء بورسعيد، واكتسب من الميناء خبرة؛ أهّلته لفتح شركة في القاهرة للاستيراد والتصدير، وكانت فاتحة خير عليه، وهي التي وطدت علاقته بأهالي باب الشعرية، حتى انتهي بهم الأمر بترشيحه للبرلمان في منتصف الأربعينيات، بعد أن تأكد لهم، رجاحة عقله، وقوة رأيه، ونفاذ بصيرته، وطيب معدنه، وكثرة أعماله. ونجح في الانتخابات، وأول عمل قام به في البرلمان هو منع قانون البغاء الذي كان سائدًا وقتئذٍ، في شارع كلوت بك بالقاهرة، ناهيك عن بناء مستشفي سيد جلال، والتبرع لدور الأيتام، والملاجئ، والمدارس".

فسأل الطالب الجامعي الدكتور قائلًا: "وكم سنة قضاها في البرلمان؟"، فرد الدكتور: "قضى أكثر من 40 عامًا، لذا أصبح شيخًا للبرلمانيين، وله في هذه السنين أعمال فاضلة تشهد له.. هل تتصور أن سيد جلال هو من وضع أفكار قانون: من أين لك هذا؟، وقانون محاكمة الوزراء، ناهيك عن مناداته باستصلاح الصحراء.. وبالرغم من هذا فقد جمع بين الحُسنيين؛ خدمة البسطاء في دائرته، ومراقبة المسئولين.. وسَنَّ التشريعات التي تخدم جميع المخلوقات.. كما أنه تبرع بمكافأة البرلمان لصالح الجيش، وتبرع لحرب فلسطين، ويحكي مصطفي أمين عنه أنه منح العمال في مصنعه بشبرا رواتبهم أثناء فترة ترميم المصنع، بعد اشتعال الحريق به.. بالله عليكم، هل تعتقدون أن هذا رجل مصري؟ مثلما نرى النواب في هذه الأيام؟".. فسكت الجميع، ولم يردوا جوابًا.. وهنا قد وصل الأتوبيس، وتسللت منه، وتركت الحوار ساخنًا، في القضية الجدلية التي طرحها الدكتور.