رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النيل.. أمن قومى لمصر


الرسالة بالغة الأهمية لإثيوبيا والتى ينبغى أن تستوعبها أن المياه قضية أمن قومى فعلا لمصر وأكثر من أمن إسرائيل القومى لأن المساس بها يعنى شروع فى إبادة 91 مليون مصرى وبالتالى فإن الضربات الاستبقائية الوقائية لن تجد إلا كل تأييد من جميع دول العالم المتحضر.

فى تصرف نراه غير مبرر قامت إسرائيل بضرب مصنع للأسلحة فى الشقيقة السودان تحت زعم أنه يمكن أن يهدد أمنها القومى فى حال تهريب أسلحته إلى قطاع غزة تحت حكم حركة حماس والذى يرعاه الحكم الإسلامى فى السودان. فالأمن القومى لإسرائيل لا يعتمد على ردع العدوان بأقوى منه ولكنه يعتمد على الضربات الوقائية الاستبقائية لكل ما يمكن أن يتطرق إليه الشك – مجرد الشك – فى أنه يمكن أن يهدد أمنها القومى والذى تكرر فى ضرب المفاعل النووى العراقى وقافلة محملة بالأسلحة للسودان أيضا على ساحل البحر الأحمر. الفكر فى الضربات الاستبقائية الوقائية يتم تدريسه فى جميع الأكاديميات العسكرية لأن من فى موقف الهجوم أفضل كثيرا من مثيله فى موقف الدفاع.

وعلى الرغم من زيارة الرئيس المنتخب ثم رئيس الوزراء وبعثات شعبية ودبلوماسية لإثيوبيا ومشاركة على أعلى مستوى فى مراسم دفن الرئيس الإثيوبى الراحل مليس زيناوى إلا أن خليفته هيلا مريام دأب على التصعيد مع مصر خلال الشهر الماضى معترضا على اعتبار مصر أن مياه نهر النيل قضية أمن قومى ومطالبته بأن تكون فقط مجرد اختلافات على حصص مياه فى بلد مثل إثيوبيا تعانى من تخمة فى الأمطار ومواردها المائية المتجددة تتجاوز 123 مليار م3 سنويا مقابل بلد مثل مصر لا تتمتع 97% من مساحتها بأى أمطار وتقتصر مواردها المائية بنسبة 90% على حصتها من مياه نهر النيل وفيضانه بالإضافة إلى حصة غير متجددة من المياه الجوفية لا تتجاوز 5 مليارات م3 سنويا قاربت على النضوب بما يدفعها إلى استخدام حصتها من مياه نهر النيل عدة مرات بتدوير وإعادة استخدام المياه التى تروى بها أراضيها لتصبح مياه صرف زراعى فتعيد استخدامها مرة ومرات بدون معالجة أشبه بالإنسان الذى يشرب ثم يعيد شرب ما يتبوله مرة ومرات بسبب النقص الشديد فى المياه العذبة فى البلد الذى أصبح صحراويا بسبب نقص هذه المياه، يحدث هذا فى مصر مقابل إثيوبيا التى تصنف على أنها نافورة المياه بمعدلات أمطار تصل إلى 1100 ملم ولمدة تسعة أشهر متتالية و12 نهرا و8 أحواض أنهار وبحيرات عذبة ومستنقعات وفواقد مياه عذبة تترك بدون ترويض أو استقطاب وترفض حتى أن نقوم باستقطابها لصالح مصر وإثيوبيا فكيف لبلد مثل هذا يمكن أن يؤمن بأن المياه قضية أمن قومى لمصر؟. فدولة كبيرة مثل مصر ذات حضارة عريقة قامت على ضفاف نهر النيل لا تتجاوز مواردها الحقيقية أكثر من 55.5 مليار متر مكعب سنويا من نهر النيل وخمسة مليارات من المياه الجوفية ومليار واحد من الأمطار على السواحل الشمالية من العريش وحتى مطروح بإجمالى موارد مائية 61.5 مليار م3 تقسم على 91 مليون نسمة تعدادنا فى العام الحالى 2012 ليصبح نصيب الفرد رسميا من المياه العذبة لا يتجاوز 675 م3 سنويا أى أقل من حد الندرة البالغ ألف م3 للفرد سنويا وقريبا من حد الندرة المتفاقمة Acute Scarcity بمعدل 500 م3 للفرد سنويا. أما مانعيد استخدامه من مياه الصرف الصحى والصناعى والزراعى فهو من حصتنا أصلا من نهر النيل التى حُسبت علينا وبدلا من أن تسلك طريقها المعتاد للتخلص منها فى الصحارى أو البحار العميقة فقد وجهناها إلى ترعنا ونيلنا لتلوثه وتضرنا لنعيد استخدامها بسبب ما نعانيه من الفقر المائى فى الوقت الذى ينعم فيها جيراننا بوفرة المياه ويستكثرون على مصر أكبر دول القارة الأفريقية والمنطقة العربية والشرق الأوسط حصتها القليلة من مياه النهر التى لا تتجاوز 55.5 مليار م3 فى السنة.

وفى المقابل نجد أن نصيب الفرد من المياه العذبة فى إثيوبيا يتجاوز 1875 مترا مكعبا فى السنة أى ضعف حد الندرة وثلاثة أضعاف نصيب الفرد فى مصر وأن نسبة المساحات هناك التى تتمتع بسقوط الأمطار عليها وكذلك الأراضى الزراعية التى تتمتع بالمياه العذبة تتجاوز 75% من مساحة إثيوبيا مقابل 5% فقط من مساحة مصر!، وبالتالى تكون مساحة الأراضى القاحلة فى إثيوبيا لا تتجاوز 25% من مساحتها مقابل 95% من مساحة مصر!!. إثيوبيا تملأ الدنيا صراخا خاصة بين دول أوروربا وأمريكا الشمالية بأن مصر والسودان تحصلان على 90% من المياه الجارية بين ضفتى نهر النيل بينما تحصل إثيوبيا على 10% فقط وللأسف تجد من يصدقها فى وسط الإهمال المصرى وعدم الرد الإعلامى على ما تدعيه إثيوبيا بأن إثيوبيا تستأثر على 90% مما يسقط عليها من أمطار تستغله فى الزراعات النظيفة والعضوية الخالية من التلوث والمبيدات والتى تغسل أراضيها دوريا وتشحن بالمليارات من الأمتار المكعبة من المياه الجوفية وهى التى جعلتها تتربع على قمة الدول الأفريقية المنتجة والمصدرة للأغذية والمنتجات العضوية فكيف تطالب إثيوبيا باستبعاد حصتها من الأمطار التى تسقط فى حوضى النيل الأزرق ونهر عطبرة من التقسيم مع جيرانها خاصة وأن 93% من زراعاتها هى زراعات مطرية عضوية خالية من التلوث وأن 100% من ثروتها الحيوانية والتى تتجاوز 100 مليون رأس هى نتاج لهذه الأمطار وما تنبته من مراع طبيعية ومروج تمتد لمساحات شاسعة ولا تكلفها مثل مصر زراعات للأعلاف تستحوذ على نصف مساحات أراضيها الزراعية من أجل 8 ملايين رأس ماشية هى كل ثروة مصر الحيوانية بل إن أراضينا الزراعية المحدودة التى لا تتجاوز 8 ملايين فدان تستهلك 80% من حصتنا من مياه النيل ومع ذلك نعانى من فجوة غذائية عميقة تصل إلى 60% من احتياجاتنا من الغذاء ونستورد القمح كأكبر مستورد له فى العالم بكميات وصلت إلى 10.5 مليون طن سنويا ثم الذرة ونحن رابع أكبر مستورد لها فى العالم بكميات 5.2 مليون طن سنويا وفجوة فى زيوت الطعام تبلغ 92% وفى العدس 99% والفول 70% والسكر 32% واللحوم 60% والألبان الجافة 50%؟! وفى المقابل نجد أن إثيوبيا دولة مصدرة للحوم والأغذية العضوية والبن والذرة ولا تتجاوز فجوتها الغذائية 20% فقط وتمتلك 25 مليون فدان من الأراضى الخصبة وتؤجر حتى الآن 5 ملايين فدان لمستثمرين أجانب لزراعات الوقود الحيوى ولإسرائيل فيه نحو 400 ألف فدان ولديها طلبات تخصيص لأراض زراعية جديدة تبلغ 15 مليون فدان من مستثمرين غربيين بسبب وفرة ما تمتلك من أراض زراعية ومياه ومع ذلك تملأ الدنيا صراخا بأن مصر تأخذ مياهها بينما العالم يصنفها على أنها بلد للوفرة الزراعية؟!. فهناك 57 شركة أجنبية تستثمر حاليا فى إثيوبيا فى إنتاج الوقود الحيوى وتريد أن تتحول إلى الزراعة المروية وبالتالى تطلب المزيد من المياه الجارية من نهر النيل ليس لإنتاج الغذاء لجوعى إثيوبيا بل من أجل إنتاج الوقود الحيوى للأثرياء الأجانب!.

الرسالة بالغة الأهمية لإثيوبيا والتى ينبغى أن تستوعبها أن المياه قضية أمن قومى فعلا لمصر وأكثر من أمن إسرائيل القومى لأن المساس بها يعنى شروع فى إبادة 91 مليون مصرى وبالتالى فإن الضربات الاستبقائية الوقائية لن تجد إلا كل تأييد من جميع دول العالم المتحضر.

■ أستاذ الموارد المائية والتربة

كلية الزراعة جامعة القاهرة

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.