رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سوريا بعد «الأسد».. إلى أين؟!


عندما واجه بشار الأسد، الرئيس الذى اشتهر بأنه «إصلاحى»، المطالب الشعبية بتقديم إصلاحات وأخذ الدولة إلى مسار جديد، أظهر افتقاره إلى الرؤية والقوة والقيادة اللازمة للتغلب على أوجه القصور الخطيرة للنظام الأمنى والمقاربات التى غلت يد الدولة السورية. ولم تلق كلمات الأسد القليلة وردود الأفعال التى اتخذها فى احتواء الموقف سواء داخل نظامه أو لدى شعبه أذانا صاغية. حيث إن الإصلاحات الضئيلة، التى تم الإعلان عنها ببطء، لم تظهر سوى مدى بعده عن الأزمة التى كانت تدور رحاها فى بلاده ومدى عجزه عن حماية نظامه. إن نظرية الفوضى الخلاقة التى هى أداة فكر أمريكى بل وأهم المفاتيح التى أنتجها العقل الاستراتيجى الأمريكى فى التعامل مع قضايا العالم العربى، التى يهدف من ورائها أن تبقى المنطقة العربية فى حالة اضطراب وغليان وعدم استقرار؛ فقد صرح مسئولون أمريكيون مراراً بأن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم الفوضى الخلاقة! التى بدأوا بتطبيقها فى المنطقة إبان الغزو الأمريكى للعراق، فقد أورثت العراق تراكمات خصبة من الفساد والسلبيات خلال العملية السياسية التى بدأت بوضع الدستور العراقى على اساس طائفى ومحاصصة منحازة مبيتة، ثم وصول قيادات سياسية متورطة فى غالبيتها بالفساد ونهب الأموال؛ مما أوجد بيئة خصبة لنشوء ونماء الحركات والفصائل الجهادية هذه التى يواجهونها اليوم، ويحشدون الأحلاف والتجمعات الدولية للقضاء عليها.

وكانت أمريكا بالأمس القريب وعن كثب تشهد مواقف تشكيل ونمو هذه الحركات والفصائل والكتائب والجماعات الجهادية بأنواعها، بكل الحيثيات؛ حيث كانت على علم بما يحدث من ذلك أولاً بأول!! لقد قامت النخب الأكاديمية الأمريكية وصناع السياسة فيها بالبحث والدراسة لإنتاج وصناعة استراتيجية تحل مشاكل المنطقة بالطريقة التى يريدونها وفقاً لاهوائهم ومصالحهم؛ فتوصلوا إلى صياغة مصطلح «الفوضى الخلاقة» بعناية فائقة بغرض التضليل والتمويه وإغراق المنطقة العربية بحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، والسماح بانهيار الأنظمة الحاكمة الحالية، وحدوث فوضى سياسية، ظانين أن هذه الفوضى تخلق خريطة أكثر استقراراً وتفرز قادة ورؤساء أكثر طاعة وولاء لهم، يصنعونهم على أيديهم وفق إرادتهم ورغباتهم، ليسهل التعاطى معهم بواقعية المصالح المتبادلة. أما فى جارتها سوريا، فالأوضاع أشد سوءًا هناك؛ فمن ثورة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية إلى صراع مسلح بين جبهتى المعارضة ونظام الأسد، إلى غابة تعج بالتنظيمات والجماعات المسلحة وأشهرها «داعش».

وللمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة السورية بدأت الأحاديث السياسية الشيعية الخاصة تسير باتجاه ضرورة التعامل مع المستقبل السورى بعقلية «الدولة» لا عقلية «الطائفة»، خصوصاً أن بعض السيناريوهات التى تتحدث عن ظهور كيان «علوى» مستقل أو شبه مستقل فى الساحل السورى لاتبدو صالحة للإبقاء على زخم الوجود الشيعى الشرق أوسطى الذى تفترضه إيران والممتد منها إلى العراق وسوريا باتجاه حزب الله فى لبنان ومنظمة حماس «السنية الإخوانية» فى فلسطين غرباً وجماعة الحوثيين فى اليمن جنوباً وصولاً إلى الجماعات الشيعية التى تتخذ صف المعارضة فى دول الخليج العربى كالكويت والسعودية والبحرين. كبار السياسيين الشيعة ومنهم الحكوميون بدأوا أخيراً الحديث عن إمكان التعامل مع المعارضة السورية، ووجهوا دعوات لتلك المعارضة، واستجاب بعضهم خصوصاً من هم خارج ائتلاف القوى السورية الذى تشكل أخيراً، اما ذلك الائتلاف الذى نجح فى الحصول على اعتراف نحو 148 دولة أخيراً، فأنه مازال يقرأ الموقف الشيعى العراقى باعتباره داعماً للأسد فى مقابل موقف سنى وكردى داعم للمعارضة بمستويات مختلفة، وفسر الشيعة العراقيون امتناع المعارضة السورية عن التعاطى معهم فى مقابل تعاطيهم مع السنة والأكراد بوجود «فيتو خليجى – تركى» يدفع باتجاه القطيعة مع شيعة العراق. وخطورة هذا الواقع على لسان بعض الحكوميين العراقيين أن العراق ربما لن يجد له موطىء قدم فى المستقبل السورى الذى سيكون لتركيا ودول الخليج العربى تأثير بالغ عليه.

وذلك السيناريو الأخير يطلق للمرة الأولى تساؤلات حول الجدوى الاستراتيجية من اللحاق بالسياسة الإيرانية حول الأسد. لكن هذا الواقع المعقد ليس «مغلقاً» حسب سياسى شيعى رفيع، «فالعراق قادر على أى حال فى فتح خطوط تواصل مبنية على المصالح المشتركة مع النظام السورى الجديد مهما كان هذا النظام، ومهما تعرض العراق إلى انتقادات الثوار السوريين بدعم الأسد». وكنتيجة لذلك، استولت العصبة الأمنية الاقتصادية السياسية التى أسسها بعض أقارب الأسد ومقربون منه، والتى أفسدها الإفراط فى الاستحواذ على السلطة والعيش فى إحساس مزيف بالاستقرار، على البلاد ولجأت إلى أدوات الإرهاب: الجيش وقوات الأمن. وعندما ارتفعت حصيلة موت المدنيين إلى ما يزيد على ألف، وانتشرت صور أجساد المراهقين المشوهة على شبكة الإنترنت، وأصبحت العمليات العسكرية تحدث على نحو يومى، انهارت أسس الدولة التى أسسها حافظ الأسد.. وللحديث بقية غداً.

أستاذ القانون العام ــ جامعة طنطا