رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدولة.. و«المُفَقَّرُون» الجدد..؟


بعد أن تخلت الدول الاستعمارية الكبرى عن سياساتها الاستيطانية، وتملكت الشعوب العربية زمام الحكم فيها.. لم يعد هناك مبرر لاستمرار النظريات التى تحاملت على الفقراء، وجعلت الفقير هو المسئول الأوحد عن فقره.

ومن ثم فقد سقطت النظريات الاجتماعية التى وصمت الفقير بأنه كائن «غير صالح» يجب «بتره». وسقطت النظريات الاقتصادية التى وصفته بأنه «كسول» يجب «تجاهله». وسقطت النظريات «الدينية» التى ربطت اعتبرته «مُذنباً» يجب «معاقبته» وسقطت النظريات النفسية التى ارتأته «مريضاً» يجب «عَزلُه»..!!

ومن ثم فلم يعد الفقير هو المسئول الأوحد عن فقره. فغالباً ما تلعب السياسات «المجحفة» للحكومات دوراً بالغاً فى «إفقاره».. فبسقوط «الذاتية» فى تفسير ظاهرة الفقر ومسبباته، لم يعد هناك مجال منطقى ولا أخلاقى لتداول مصطلح «فقراء»ولا تكراره فى مجالس الاقتصاديين والسياسيين ولا حتى فى خطابات المثقفين .. إذ بات تداول مصطلح «المُفقَرين» أكثر جدوى..

فقد أسهمت السياسات غير العادلة فى توزيع عوائد التنمية فى إخراج الملايين من أحضان الطبقة الوسطى الدافئة. وقذفت بهم إلى شوارع البطالة والفقر والديون؛ لينضموا إلى ملايين الفقراء فى عالمنا العربى العائم على كنوز من النفط، مما تسبب فى نشوء ظاهرة «المُفقرين» أو «الفقراء الجدد» وهم الذين اعتادوا لوقت طويل على حياة الطبقة الوسطى، وباتوا يعتمدون بشكل أساسى على إعانات حكومية، أو ما تسميه الحكومة «إعانة بطالة» أو إعانات للمتعطلين عن العمل. وهم أولئك الذين صنعتهم المعالجات المجتزأة أو الخاطئة لمشكلة الفقر، فانضموا إلى الملايين ممن سبقوهم فى شوارع البطالة وهووا دون حول منهم إلى بئر الفقر وأتون «الحرمان» ..!

ولعلهم أيضاً هم الذين خرجوا تباعاً للشوارع العربية ابتداء من نهايات 2010 يطالبون باستعادة حقوقهم المعيشية والإنسانية والسياسية التى أتت الثورات العربية على ما تبقى منها. وربما تؤول الأوضاع مستقبلاً إلى انتفاضات إضافية جديدة يقوم بها «المُفقرون» إن لم تأخذ عملية الإصلاح الاقتصادى مداها المفترض..!!

والمُفَقَرون الجدد ليسوا من المتعطلين عن العمل أو من العمال غير المهرة، بل من الفئات العاملة والتى تستمد دخلها من العمل فقط. بيد أن دخلها هذا لم يعد كافيا وربما لم يعد موجوداً بالأساس.. وقد تظهر أزمة «المُفَقَرين» مع الأوضاع التى يضطر فيها حاملو المؤهلات العليا إلى العمل ليلاً فى المقاهى. أو أن تضطر فيه الحكومة إلى تبنى سياسات متناقضة ومجحفة تتجنب قضايا الفقر بتوجيه الشباب إلى العمل على «توك توك» وتعمل فى الجانب الآخر على منع «استيراده»..!!

وتعد ظاهرة «المُفَقَرين» الجدد نقيضاً منطقياً لظاهرة الأغنياء الجدد أو «مُحدثى النعمة» تلك التى تجلت بقوة مع سياسات الانفتاح الاقتصادى التى تبنتها الدولة إبان السبعينيات من القرن الماضى. ومن ثم فمخطئ من يتصور أن المُفَقَرين نتاجُ عامٍ أو عامين من «الغُبن» المفرط فى توزيع عوائد التنمية. بل هى حالة غذتها سنوات من الاستهلاك المفرط والمغذى من الديون،حتى أصبح الاقتصاد بجميع قطاعاته الإنتاجية معتمداً على اقتصاد الفائدة المتراكمة والديون، فبات كـ«بيت الورق الذى انتظر ريح الثورة لتكشف ضَعفَهُ..» ولم تكتف تلك السياسات بإفقار الطبقة الوسطى والقضاء على عديد من ميزاتها التى راكمتها عبر السنين. بل تسببت بشكل كبير فى تقويض استثمارات عديد من الأغنياء الذين فشلوا فى سنوات الفساد العجاف من «تزويج» ثرواتهم بالسلطة الحاكمة..! وعموما فإننا نقصد بـ«المُفَقَرين الجدد» أبناء الطبقة الوسطى الذين انضموا حديثاً إلى صفوف شريحة الفقراء الذين لم يتجاوز دخلهم اليومى 2 دولار يومياً، ويحملون خصائص إنسانية وسلوكيات استهلاكية وقيماً ثقافية مغايرة «ربما يصعب عليهم التعايش مع ظروفهم الاستثنائية الجديدة فيشكلون شريحة مغبونة لا تشعر بالانتماء للوطن ولا تسعى لزرعه فى نفوس أبنائها الجدد، وتؤهلهم باستمرار للهجرة خارج البلاد، حتى ولو كان الثمن هو الموت، فعندما لا يملك الإنسان شيئا عليه الذهاب إلى ما لا يعرف..!! وربما تصبح هذه الشريحة هى الفتيل الواعى وسط «بنزين» الجماهير «المستكينة»، الجاهزة للاشتعال متى شعرت بعجز الدولة عن إخماد الغضب...!!

أستاذ التنمية البشرية - جامعة الفيوم