رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«داعش» والشباب المغيب .. والأمن القومى «3-3»


من المؤكد أن تغذية أسباب التطرف وتجنيد الإرهابيين لا تظهر بالضرورة فى ظل ظروف الفقر المدقع والحرمان، لكن على الأرجح عندما تتلاقى العوامل السلبية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. إن رفض جذور التطرف الاجتماعية والاقتصادية على أساس أن معظم الإرهابيين يأتون من الطبقة الوسطى، هو ببساطة أمر ساذج ومُضلل. بالتحديد عندما تضع الناس طموحات وتوقعات عالية، ويأملون بالترقي، علينا الانتباه أكثر لاحتمالات الإحباط والذل ومن ثَمَّ التطرف الأيديولوجى. هناك مجموعة متزايدة من الأعمال الأدبية التى تشير لمثل هؤلاء الأفراد بـ «الناجحين المحبطين»، وهو مصطلح يعبر عن أولئك الذين يمتلكون بعض مقومات النجاح كالتعليم، وبالفعل يكسبون المال، لكن كل ذلك يفتقد للأثر الإيجابى من إشعارهم بالسعادة أو الرضا. وقد نُشِرَ بحث حول تلك الحالة، وبالفعل وجد ترابط وثيق بينها وبين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فى المجتمعات.

إلا أنه حقيقةً عندما يتم إفقار ملايين الناس، وخاصة الشباب، فلا يكون لهم أمل فى المستقبل، عندما يعانون من إذلال الفساد لهم يوميًّا، وعندما لا توجد أى منافذ يعبر بها الناس عن همومهم، حينها يتفاقم الاستياء بينهم. وبالتالى ينمو خطر عدم الاستقرار والتطرف. فأيّمَا مكان لا يجد الشباب فيه فرص تعليم، يصبحون أكثر عرضة لنظريات المؤامرة والأفكار المتطرفة التى لم يقيسوها بأى شىء آخر، أو حتى يختبروها فى مواجهة أفكار أُخرى. وقد شهِدنا ذلك فى جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

الحرمان النسبى لا يهتم فى المقام الأول بالفقر أو الجهل. إنما ينصب تركيزه على تنمية التطلعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتغلب على انعدام فرص تلبية تلك التوقعات المتزايدة. فأولئك المتعلمون الذين لديهم طموحات عالية، لكن فى نفس الوقت لا توجد آفاق حقيقية للتقدم هم بالتحديد من يوصفون بـ «الناجحين المحبطين»، وهم الذين يستميلهم التطرف بشكل متزايد. لذا، من المنطقى أن تكون تونس التى لديها طبقة وسطى قوية ونظام تعليمى أقوى من أى بلد آخر فى الشرق الأوسط، صاحبة نسبة كبيرة من حيث انضمام شبابها لداعش بأعداد تبدو غير متناسبة مع وضع البلد السابق ذكره. توجد ديناميات مماثلة من الحرمان النسبى فى أوروبا، حيث إن أعدادًا كبيرة من السكان المسلمين بما فيها شريحة الشباب متعلمون نسبيًّا وعاطلون عن العمل ومحبطون، إضافة إلى أنهم جُرِّدوا من أى إحساس بالانتماء. على سبيل المثال، بلد صغير مثل بلجيكا تعانى من مشاكل خطيرة كالهوية الوطنية والبطالة، علاوة على مشكلات اندماج المسلمين فى المجتمع الأوروبى. كل ذلك يمثل نموذجًا مثاليًّا للتربة الخصبة السامة التى تدفع نسبة كبيرة من الشباب البلجيكى بشكل غير متناسب للانضمام لداعش، كما هو الحال فى تونس. فأى استراتيجية تهدف لإحباط محاولات «داعش» فى تجنيد عناصر جديدة يجب أن تعالج نقص الفرص لهؤلاء المحبطين، وخاصة من أهل السنة فى العراق وسوريا، بالإضافة إلى معالجة مشاكل اندماج المسلمين فى أوروبا. أما على المستوى الأيديولوجى، يجب أن يكون النقاش داخل الاسلام نفسه، بحيث لا يُساء فهمه على أنه صراع حضارات بين الإسلام والغرب. وتحقيق ذلك الهدف بالتأكيد سيساعد فى زيادة وضوح الإسلام المعتدل، وظهور علماء الدين الإصلاحيين الذين يتصدون للتفسير المتطرف للإسلام بوضوح على وسائل الإعلام وصفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى. كل تلك العوامل الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية والنفسية يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار عند تحليل الدوافع وراء انضمام الناس لداعش. على عكس تنظيم القاعدة، تزعم داعش أنها خلقت دولة مَولِد الخلافة من جديد. فهى أكثر من مجرد منظمة إرهابية، هى حركة متطرفة، ودولة زائفة تبحث عن مواطنين. لذا، فإن فهم تعقيد الحرمان النسبى لن يأتى بالتركيز على أحد العوامل فقط – الأيديولوجية أو الاقتصادية- وإنما بتداخل الاثنين معًا، وتلك هى الخطوة الأولى فى محاربة أسباب جاذبية داعش للآلاف من هؤلاء المحبطين فى العالم العربى وأوروبا وغيرهما.