رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرجل الفلتة


منذ تفتحت عيناى.. رأيته.. لقد بلغ من الكبر عتياً.. قالوا إنه عمى على الطواف.. لماذا أسموه بهذا الاسم؟ الله أعلم. الرجل دائم الحكايات عن نفسه وكيف أنه تربى فى كنف الباشاوات والبكوات والأفندية وأنه عاصر العظماء والزعماء فى كل العصور. المهم أنه منذ وطأت قدماه أرض قريتنا وحكاياته التى لا تنضب حديثاً دسماً فى كل البيوت والحقول والمناسبات العامة. وعندما عينت إماماً وخطيباً لمسجد القرية الكبير وبه حجرتان بما يلزمهما من معيشة. وفيهما كنت أتعايش مع الجماهير وكنا ندرس البرامج المستقبلية للنهوض بقريتنا المنكوبة. بعد أن أهملت لسنوات عديدة على أيدى حكومات الحزب الوطنى المتعاقبة.. عمى على فى ذهابه وإيابه كان يفترسنا بنظراته المغلفة بالصمت المريب. وكان يحملق بعينيه اللتين تبصران قليلاً فى الحضور . ثم انتهى به المطاف إلى التجرؤ والجلوس معنا فى جلسته الأولى حاول الرجل أن يرسم لنفسه استراتيجية فحواها أنه موسوعة فى كل المجالات بداية من درايته بأمور الزراعة مروراً بخبرته التى لا تضاهى فى علوم الطب والهندسة والنحت وانتهاء ً بفيوضاته الغزيرة فى أمور الدين. وقلنا الحمد لله الذى عوض أهل قريتنا خيراً بقدوم الرجل «الفلتة» فى ذات الجلسة انتفض غاضباً وقال بصوت مرتفع. ما هذا الذى أراه.. وتساءلنا ما الذى أغضبه ؟ ثم أردف قائلاً.. ما هذا التخلف وما هذه الرجعية . ثم أشار إلى إحدى فلاحات القرية وقد رآها ترتدى حجاباً كعادة أهل القرية وقد عرفوا بتدينهم وحسن إسلامهم . وعدت بالذاكرة إلى الوراء عندما مد الشافعى رجليه. والغريب أننى عندما حاولت تصحيح ما أفسده الرجل. هاج وماج وانتفخت أوداجه وزاد أنه يعرف فى أمور الدين أكثر من شيوخ الأزهر منذ نشأته قبل ألف عام. وزاد أنهم يبيعون الفتاوى بثمن بخس دراهم معدودة. فجأة ارتفع صوت المؤذن لصلاة العصر عم على انصرف دون استئذان.. فالرجل كما قال لا يعرف للمسجد باباً.. وإن تباهى باستخدام دورات المياه عند الحاجة. مساء كل يوم كان الأهالى يحرصون على استدعائه ويتخذونه مادةً للسخرية ويضحكون على أفكاره البالية. وكنا نراه فى الغالب ملاصقاً للحريم فى جلساتهم فهو رجل يجيد فن الميوعة والخلاعة. عم على أثيرت حوله الحكايات والأقاويل التى لاتعد ولا تحصى فمن قائل: إنه أخرج عنوة من مدينة المنصورة بعد أن ذاع صيته وانتشر خبره لمرض عضال أصابه . وكان من الصعب أن يستقر به الحال هناك. وآخرون قالوا: إنه بلغة أهل العراق سر سرى وجواد وعندما انتهى دوره المشئوم كان بمثابة المصيبة التى حلت بقريتنا. لكن المؤكد أن عم على كان جاهلاً بكل شىء وما أثير حوله من عبقريات وهم خيال . فالرجل لا يعرف الألف من الكوز الذرة. والثابت أيضاً أنه كذاب وفشار ويشتد كذبه إذا تحدث فى أمور الدين. عم على كان يتباهى ويتفاخر بعلاقاته المتشعبة مع أولى الأمر وعلية القوم. بداية من خفير الناحية مروراً بالعمدة وانتهاءً بمحافظ الإقليم ومدير الأمن وكل الوزراء الذين تربوا كما قال على يديه. عم على ظل حتى أنفاسه الأخيرة يكافح ومن خلال أحاديثه الممجوجة التى لا تغنى ولا تسمن من جوع لإفهام الآخرين أنه رجل مثقف وأنه مصاب بعقدة التنوير . مع أنه لايحمل من الثقافة إلا القشور..وكان يقدم حيثيات الثقة العمياء التى أولاها له أولو الأمر ومنها أنه كثير الأسفار إلى الخارج للمشاركة فى المؤتمرات والمسيرات التى تعود على البشرية بثمر نافع. المهم أن الرجل أصابه المرض اللعين.. ثم سرعان ما خارت قواه وتوقف لسانه عن الافتراء والكذب ومات قبل أن يرشدنا عن سفرياته ومسيراته التى كان يحظى بشرف الاشتراك فيها. والمؤسف أنه رفض الاعتذار عما بدر منه فى حق الله والعباد. قولوا معى جميعاً : يرحم الله عم على ومن على شاكلته أو الرجل الفلتة. وكيل وزارة الأوقاف - كفر الشيخ