رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هُنـا القاهرة


انطلق هذا النداء «هُنا القاهرة» لأول مرة عبر الأثير عام 1934 معلنًا عن ميلاد الإذاعة المصرية؛ وكان لها رجع الصدى فى كل أرجاء المعمورة، على لسان الإعلامى الفنان «أحمد سالم» مفتتحًا بها البث الإذاعى وقتئذٍ، واضعًا نهاية للإذاعات الأهلية التى انتشرت فى مصر من منتصف العشرينيات من القرن الماضى بمعرفة الشركات التى كان جُل همها هو الترويج للتجارة والتربح، دون الأخذ فى الاعتبار أن مهمة الإذاعة فى الأساس هى إعادة تشكيل الوعى الجماهيرى.

وغرس بذور القيم الحقيقية للشخصية المصرية فى جميع مناحى الحياة للارتقاء بالذوق العام خاصة الذائقة الفنية والإبداعية والتأكيد على إحساس الانتماء للوطن القابع آنذاك تحت ربقة الاحتلال الإنجليزى البغيض، وكانت للإذاعة اليد الطولى فى تحقيق هذا الانتماء فى الحس والوجدان الشعبى الذى كان له أكبر الأثر فى اندلاع الحركات التحررية فى الوطن العربى وانتفاضة القارة الأفريقية ضد كل أشكال الاستعمار الاقتصادى والعسكرى.

وإيمانـًا من الدولة المصرية بهذه المفاهيم الخلاَّقة لدور الإذاعة وتأثيرها على الجماهير منذ قيام الثورة المصرية 1952، قامت بتدريب وخلق الكوادر المثقفة المؤمنة برسالة الإعلام السامية، فظهرت البرامج الحوارية الجادة الناجحة التى تناولت المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى تقديم «الدراما» الجادة التى تناقش قضايا المجتمع للوقوف على حلول بالمشاركة الشعبية فيها، إلى جانب البرامج الثقافية المتخصصة فى الشعر والموسيقى والمسرح العالمى، تلك البرامج التى ارتفعت بنسبة الاستماع إلى «البرنامج الثانى» المتخصص فى نقل الثقافة إلى المتلقى المتعطش إلى هذا اللون من البث، كما انتشرت برامج تشجيع المواهب الصاعدة من مطربين وملحنين وشعراء وكتاب فى كل الفنون قدمتهم الإذاعة ووصلت بإبداعاتهم إلى القرى والنجوع، علاوة على إنتاج الصور الغنائية والمسلسلات الدرامية والفكاهية من أبرزها «ساعة لقلبك» بطولة نجوم ممن تصدروا المشهد فى عالم الكوميديا و«أنت اللى قتلت بابايا» و«ألف ليلة وليلة» و«محكمة الفن الغنائية» و«عواد باع أرضه» و«الدندرمة»، وكذا برامج المسابقات منها على سبيل المثال «جرَّب حظك» و«على الناصية»، حيث قدما إلى المجتمع العديد من المواهب الشابة الواعدة حينئذ، وكان للطفل نصيب كبير فى برامجنا مثل «غنوة وحدوتة» وبرنامج «بابا شارو»، والبرامج الدينية أيضاً وغير هذا الكثير والكثير، وقد استطاعت إذاعتنا أن تعيد تشكيل المفاهيم الفنية والثورية والسياسية داخل الوجدان المصرى والعربى على مدى حقبة مهمة فى التاريخ المصرى والعربى، واستمدت منها بقية البلدان العربية الخبرة بالسير على المنوال نفسه فى الرسالة الإعلامية السامية بالقدر نفسه من الاهتمام.

إننا اليوم ونحن نحتفل بعيد الإذاعة فى عامها الواحد والثمانين ونتقدم بالتهنئة إلى إعلامييها، أن نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة وهى أن الزمن الزاحف على «موجات الأثير» لابد أن يزداد شبابًا وتألقًا ونضارة بتبنِّى كل ماهو جديد فى الفكر الإنسانى ليقدمه طواعية للعقل المصرى المتطلع إلى المستقبل الأفضل، ليبقى الزمن الجميل ممتدًا عبر الأيام والتواريخ، والابتعاد عن بعض مظاهر الإسفاف والسطحية فى كثير مما يقدم عبر الأثير اليوم، يدافع عنها أصحابها بحجج واهية أو مسايرة لبعض الأفكار الشبابية التى تحاول أن تخرج من عباءة الالتزام بالحس الجمعى فى الشارع المصرى، وهى حجج مردود عليها بأن هذه البرامج لا تمُت للذوق المصرى ولا توجهاته بصلة، ولن تتأتى هذه العودة إلى البرامج الجادة إلا بضرورة الإيمان برسالة الإذاعة التى تربَّت عليها الأذن المصرية فى فترة أطلقنا عليها فترة «الزمن الجميل» أو «العصر الذهبى»، والذى ننتظر عودته بكل الجمال والكمال والبهاء، لتعود أُذُنْ المستمع المصرى والعربى إلى أحضان البث المباشر من الإذاعة المصرية.. ولتسعد الأذن المصرية والعربية بهذا النداء الجميل: هُنـا القاهـرة.

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون