رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية وتأثيرها على المنظور الأمريكى «18»


هل يُمكن القول بأن اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة العربية قد تراجع؟ وهل يُمكن أن يكون هذا التراجع متعـمداً؟ بمعـنى آخر أكثر دقة هل يُمكن أن تستغـنى الولايات المتحدة عن قلب العالم الذى لا غـنى عـنه فى بناء أى استراتيجية عالمية أو إقليمية فى المنطقة نشأت فى تاريخ البشرية حتى الآن؟.

تناولت فى المقال السابق تفاعلات ما بعد احتفالات روسيا بالنصر عـلى تحالف دول المحور كأحد أبرز المتغـيرات المؤثرة على المنظور الأمريكى، حيث سيترتب عليها إعادة هيكلة النظام الدولى وتشكيل نظام دولى جديد تتعـدد فيه الأقطاب وإن لم تتبلور ملامحه بعـد، فلم تكن زيارة جون كيرى لسوتشى بتكليف من أوباما فى أعقاب هذه الاحتفالات تعـبيراً عن فشل سياسات الولايات المتحدة فى فرض حالة العـزلة على روسيا فقط، لكنها كانت إيذاناً لبدء عملية إعادة هيكلة النظام الدولى الراهن وتشكيل النظام الدولى الجديد أيضاً، وتحسباً لذلك نجحت الولايات المتحدة فى ضم معـظم دول حلف وارسو إلى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو وشيدت فيها منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية لإحكام حصار روسيا عسكرياً، وأعادت تمركز بعـض قطعها البحرية وطائرات القتال والاستطلاع الأكثر حداثة فى قواعـدها البحرية والجوية قبالة سواحل شرق آسيا لزيادة كثافة تواجدها العسكرى فى منطقة شرق آسيا لمواجهة الصين.

الأمر الذى أظهر تعاظم اهتمامها بمنطقة شرق آسيا على حساب تراجع اهتمامها بالمنطقة العربية ككل ومنطقة الخليج العربى على نحو خاص ويعـزو بعـض المحللين تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة العربية إلى اكتشافها أكبر خزان يحتوى على مخزون هائل من زيت البترول والغاز الطبيعى فى أراضيها، وأصبحت الولايات المتحدة وكأنها تعـوم على بئر لا ينضب من البترول يمكن أن يُوفر لها الاكتفاء الذاتى، ويُنتج المعـدلات الكافية لتحقيق الرفاهية الصناعـية لها ولحلفائها، وربما يجعلها من أكبر الدول المصدرة للطاقة البترولية «تنتج حاليا 9 ملايين برميل/ يوم» ويُؤكد هؤلاء المحللون أن دعـوة أوباما لرئيس وزراء اليابان لزيارة واشنطن الأخيرة تعكس مدى تعاظم اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة شرق آسيا وتراجع اهتمامها بالمنطقة العربية ككل والخليجية، عـندما طلب أوباما من رئيس الوزراء ألا تركن اليابان على وجودها تحت مظلة الحماية الأمريكية فقط، بل عليها أن تتخذ من التدابير والإجراءات التنظيمية والتسليحية والتدريبية ما يكفل لقواتها المسلحة رفع كفاءتها القتالية لزيادة جهودها كى تلعـب دوراً أكثر فاعلية فى منطقة شرق آسيا، وهو ما يُدلل على اهتمام الولايات المتحدة البالغ بالمنطقة، الأمر الذى يُمثل تحولاً جذرياً فى استراتيجيتها.

فهل يُمكن القول بأن اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة العربية قد تراجع؟ وهل يُمكن أن يكون هذا التراجع متعـمداً؟ بمعـنى آخر أكثر دقة هل يُمكن أن تستغـنى الولايات المتحدة عن قلب العالم الذى لا غـنى عـنه فى بناء أى استراتيجية عالمية أو إقليمية فى المنطقة نشأت فى تاريخ البشرية حتى الآن؟ تحتاج الإجابة عن هذه التساؤلات إلى التوصل أولا إلى غاية وأهداف الولايات المتحدة الحقيقية وتحليلهاً تحليلاً منطقـيـاً، حتى نتيقن من تعاظم اهتمامها بمنطقة شرق آسيا على حساب تراجع اهتمامها بالمنطقة العربية، ففى يقينى أن غاية الولايات المتحدة فى هذه المرحلة تتمثل فى احتفاظها بمركز الهيمنة على العالم وعدم زحزحته فى اتجاه روسيا أو الصين أو الاثنين معاً، وأن أحد الاشتراطات الرئيسية لاحتفاظها بهذا المركز هو سعـيها الدؤوب للحيلولة دون قيام أى قوة عالمية أو إقليمية تكون قادرة على التحكم فى المنطقة العربية، التى أمست وأصبحت لاغـنى عنها فى بناء أى استراتيجية عالمية أو إقليمية نشأت فى تاريخ البشرية حتى الآن، وينبع من هذه الغاية عـدة أهداف إستراتيجية مرحلية يتعـين تحقيقها، إذ تهدف الولايات المتحدة أولاً إلى أن تُصبح اليابان قوة عسكرية قادرة على تحقيق التوازن الاستراتيجى مع الصين التى تسعـى إلى تعـظيم قوتها العسكرية.

ونجحت فى تشغـيـل أول حاملة طائرات صينية، وتهدف ثانياً إلى خلق أنسب الظروف للتفرغ لمواجهة روسيا الساعـية أيضا إلى استعادة نفوذ القوة السوفييتية العـظمى، خاصة بعـد قيام أسطول المحيط الهادى الروسى بالفتح الاستراتيجى لأول مرة فى مياه البحرين الأحمر والمتوسط الدافئة منذ عـقود مضت، واستعـرضت قوتها البحرية بدخول الطراد مارياج القاعـدة البحرية بالأسكندرية، وهو يُعـد من أكبر القطع البحرية، حيث يصل طوله إلى 186متراً، ومدى العـمل الاستراتيجى إلى 7500 ميل بحرى، ويحمل 16 منصة لإطلاق الصواريخ ومنظومة متكاملة للحرب الإلكترونية، كما تهدف ثالثاً إلى خفض إنفاقها العسكرى لتخفيف حدة الديون المتراكمة التى أثقلت كاهلها والخلاصة فإنه يمكن القول بأن اهتمام الولايات المتحدة بقلب العالم لم يتراجع، لكنها اطمأنت إلى الأوضاع المتردية التى وصلت إليها دول العالم العربى، اتساقاً مع رؤية برجنسكى، وخططها برنارد لويس، وعـبرت عـنها كوندليزا رايس بالفوضى الخلاقة فى 2004، وأن هذه الأوضاع المتردية ستبقى أمداً بعـيداً.. وللحديث بقية فى الأسبوع المقبل بإذن الله.