رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية.. وتأثيرها على المنظور الأمريكى «15»


بعـد أن تناولت التقارب الأمريكى- الإيرانى كأحد محددات بناء الاستراتيجية العربية الموحدة «المقترحة»، وقبل أن أتناول محدداً آخر ربما يكون أكثر أهمية، وجدت أنه من المناسب أن أوجز ما تناولته على مدى أربعة عـشر أسبوعاً حتى أضع القارئ فى الصورة الكاملة عن جوانب الموضوع.... فقد تناولت المتغـيـرات التى شهدها العالم، حيث كان أبرزها تلك التى أدت إلى تغـيير النظام الدولى ثنائى القطبية إلى نظام أحادى القطبية، احتلت الولايات المتحدة قمته واستأثـرت بالـنفوذ على ساحته الدولية، وشهـد العالم العـربى متغـيـرات أخرى كان أبرزها هى التى حدثت فيما يُسمى بـ«دول الربيع العربى أو دول الأصولية الإسلامية»، وأوضحت أن مصطلح الأصولية الإسلامية بدأ فى التبلور فى الاستراتيجية الأمريكية فى نوفمبر 1988، حيث تضمن تقرير لجنة التخطيط الاستراتـيجى لوزارة الخارجية العـبارة التالية «أما وقـد انتهت الحرب الباردة بيـننا وبين الاتحاد السوفييتى فإن مصادر التهديـد البـديلة ستكون مصادر عـدم الاستقرار فى دول الأصولية الإسلامية والأنظمة السياسية غير المستقرة»، واستخدمه بوش الابن استخداماً فعـلياً بعـد أحداث سبتمبر 2001 التى أحدثت تغييراً جذرياً فى محتوى المنظور الأمريكى، حين أعـلن عـن شن حرب صلـيـبـيـة جديـدة ضد «العـرب ودول الأصولية الإسلامية» لمحاربة الإرهاب الكامن فيها، لكنه تراجع فصرح بأنه لم يـقـصـد ذلك، وأن الأمـر لا يعـدو أن يكون «زلة لسان» وأرجعـت نشأة مصطلح الأصولية إلى بعـض الجماعات اليهودية والمسيحية المتشددة وأطلقه الغرب على الإسلام، وأوضحت مفهوم مصطلح العالم العربى بأنه يعـنى مجمـوعة من الدول المتناثرة التى وجـدت مكانـاً فى عالم اليوم، لكنها لن تجـد لها مكانـاً فى عالم الغـد «عالم التكتلات والكيانات العملاقة» ما لم تُؤمن نفسها باستراتيجية عربية موحدة، حيث يتطلب بناؤها إجراء دراسة دقيقة عن الموقف الاستراتيجى أولاً لاستخلاص المحددات التى تعـيق بناءها، وبدأت بالمنظور الأمريكى باعـتباره أحد أهم هذه المحددات، وفى المقالتين الأخيرتين أشرت إلى المستجدات التى طرأت عليه، فتناولت التقارب الأمريكى- الإيـرانى باعـتباره الأكثر تأثيراً على المعادلة الاستراتيجية العـربية، إذ يُعـد مشروع إحياء الإمبراطورية الفارسية تحت الراية الشيعـية الجارى تنفيذه فى الوقت الراهن هو الأشد خطراً والأعمق أثراً على المعادلة العربية، خاصة بعـد أن توصلت الولايات المتحدة وإيران إلى ما يُطلق عليه التسوية التاريخية لملف إيران النووى، فى مقابل إطلاق يدها فى المنطقة العربية وتوسيع نطاق نفوذها لتحقق حلمها الدائم، والسيطرة على المنطقة بشرط المحافظة على الأوضاع الحالية، خاصة فى العـراق بتقسيماته العرقية والمذهبية، وسوريا التى أصبحت أنقاض دولة وبقية شعـب بعـد تدمير مقدرتها العسكرية وأركانها الأساسية، وليبيا التى فقدت سيادتها على إقليمها واشتعلت فيها الفوضى العارمة، وبعـد أن بسطت نفوذها بكيانات موالية لها «حزب الله ـ الحوثيين» فى لبنان واليمن، حيث أدركت الولايات المتحدة عـدم جدوى اتباع سياسة فرض العـقوبات البالية على إيران، خاصة بعـد أن امتلكت الـرادع النووى أو تكنولوجيا تصنيعه على الأقل، وحتى لا يتم استقطابها من إحدى القوى العالمية المضادة خاصة روسيا. أما المحدد الثانى لبناء الاستراتيجية العربية الموحدة «المقترحة» فيكمن فى الارتباط الاستراتيجى بين الولايات المتحدة وإسرائيل الذى بدأ فور نشأتها وتطور ليصبح ارتباطاً عـضوياً، فإذا كانت بريطانيـا العـظمى هى التى خلقـت الوطن القـومى لإسرائيل فى فلسطين، فإن الولايات المتحدة هى التى اعـترفت بها فور قيامها وعملت على بقائها وصيانة أمنها، ومع إدراك إسرائيل أنها تحمل فى جسدها ضعـفاً شديداً يتمثـل فى كتلها الحيوية، فقد ارتبطت بقـوة عـظمى منذ نشأتها وحتى الآن لـحماية وجودها ككيـان، ذلك أن شكل الدولة، وطول حدودها مقارنة بمساحتها، وموقع عاصمتها وصغـر مساحتها وعمقها الذى يبلغ حوالى 10 أميال عـند منتصفها وهو ما يجعـلها أقرب ما تكون من مصادر التهـديـد، الأمر الذى يشكل خللاً فى معادلتها الاستراتيجية فى نسقها المقارن، وبالتالى فقد تبنت عدة مبادئ لجبر هذا الاختلال، الأول ضرورة تحقيق التفوق العـسكرى المطلق بجميع مستوياته على الدول العـربية مجتمعة واعـتبار هذا التفوق ليس مرتبطاً بحالة الحرب بقدر ما هـو ضرورى لصيانة أمنها، والثانى التوجه الجيوبوليتـيكى الجائر بالاستيلاء عـلى أراضى الغـيـر للوصول إلى أقـصى حدود آمنة، أما المبدأ الثالث فهو ضرورة نقل العـمليات الحربية خارج أراضيها، ويمثل العـنصر الثانى لكتلتها الحيوية إشكالية أخرى، فضآلة حجم سكانها بالنسبة لدول نسقها المقارن جعلها تـتـبـنى نظريـة الحرب الخاطـفـة وعدم تحملها خسائر بشرية ضخمة، إذ يتأثـر اقـتصـادها بالـسـلـب بالـتعـبـئـة العـامة واستمرار حالة الحرب لمدة طـويـلـة أو عـند تحملها خسائـر بشرية جسيمة، فما تأثير هذا الارتباط على بنيان الاستراتيجية المقترحة. هذا ما سأتناوله فى الأسابيع المقبلة بإذن الله.