رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الدولية والإقليمية وتأثيرها على المنظور الأمريكى «14»


تناولت فى المقالات السابقة تقرير لجنة التخطيط الاستراتـيجى للخارجية الأمريكية «نوفمبر1988» الذى حدد التهديدات الجديدة الموجهة إلى حلف الناتو فقد تضمن الآتى «أما وقـد انتهت الحرب الباردة بيننا وبين الاتحاد السوفييتى، فإن مصادر التهديـد البـديلة ستكون دول الأصولية الإسلامية» وأرجعـت نشأة مصطلح الأصولية إلى بعـض الجماعات اليهودية والمسيحية المتشددة، وأوضحت مفهوم مصطلح العالم العربى بأنه يعـنى أنه مجمـوعة من الدول والشعـوب المتناثرة التى لن تجد لها مكاناً فى عالم الغـد مالم تُؤمن نفسها باستراتيجية عربية موحدة،

ولذلك فإنه يتعـين إجراء دراسة شاملة للموقف الاستراتيجى لاستخلاص المحددات التى تعـيق بناءها والركائز التى تعزز بناءها، وأوضحت أن الحاجة الاستراتيجية فرضت على الولايات المتحدة إحداث التقارب مع إيران فكانت التسوية التاريخية لملفها النووى عربوناً له، إذ يُعـتبر هذا التقارب هو المُحدد الأشد خطرا والأعمق أثراً فى الوقت الراهن، وانتهى المقال السابق إلى أن توحد الرؤى أدت إلى التقاء الإرادات السياسية الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية، فقد التقت الرؤى الأمريكية والإسرائيلية مع الرؤية الإيرانية فى أن تكون إيران هى المدخل البديل والأداة الجديدة لتحقيق الأهداف، فقد احتوت الرؤى الثلاثة على تفتيت وإضعاف الدول العربية حتى تتمكن الولايات المتحدة من إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، وتتمكن إسرائيل من صيانة بقائها فى قلب المنطقة، وتحقق إيران حلمها الدائم «إحياء الإمبراطورية الفارسية» والواقع فإن محتوى المنظـور الإيـرانى ظل ثابتاً لا يتغـيـر منذ نشأة الإمبراطريـة الفارسية، مروراً بالفتح الإسلامى عـندما تمكن البرامكة من السيطرة على مراكز صناعة القرار فى الدولة العـباسية، وتأكد ذلك فى فتـرة إيـران الشـاه، ثم ترسخ بعـد الـثـورة الإيرانية عـندما تأسست الدولة الإسلامية فى إيـران، وتأثـرت العـلاقات الإيـرانـيـة- العـربـيـة بقضية هويـة الخـليـج حتى اتسمت طبيعة هذه العـلاقات بالصيغة التصارعـية، ويُعـتبر تمسك إيران بتسمية الذراع المائى الممتد من المحيط الهندى «بالخليج الفارسى» دليلاً على ذلك، ولاشك فإن هذه التسمية تحمل فى طياتها صراعاً سياسياً ذا أبعاد استراتيجية تتعلق بمفهوم الهيمنة، كما يُعـتبر استمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية وقيامها بتحديـد مياهها الإقلـيمـية لتغـطى مياه الخليج كله دليلاً آخر ومؤشراً لتهيئة البيئة المناسبة لإحياء الإمبراطورية الفارسية واستعـدادا كاملاً للهيمنة على منطقة الخليج لتأكيـد هـويته الفارسية، وهو ما يُوضح لنا سعـيها الدؤوب لبناء قـوة عـسكـريـة تفـوق متطلباتها الدفاعـية، وإصـرارها على الامتلاك الـفعـلى لـلرادع الـنـووى. ويشير الواقع إلى أن الولايات المتحدة جعـلت من العـراق نموذجاً لما سيكون عليه الوضع بعـد إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، حين هـدَمت أركانه ودمرت بنيته الأساسية، وتخلصت من جيشه الذى كان يُعـد أقوى جيش فى منطقة الخليج، ثم قسمته عـرقياً فجعـلت شماله للكيان الكردى الذى ينتظر الاعتراف به دولياً فور اعترافها به، وقسمته مذهبياً، حيث أصبح وسطه للسنة بينما أضحى الجنوب للشيعة، ثم أغرقته بالميليشيات المسلحة تحت دعوى مقاتلة «تنظيم الدولة الإسلامية» بحشود القبائل والعشائر، هذه الميليشيات هى التى ستكون أدوات الفوضى التى قد تنشأ مستقبلاً سواء نجحت هذه الميليشيات فى القضاء على «داعش» أم لم تنجح، ثم وضعـت العراق بتقسيماته وضعـفه تحت نفوذ إيران، حيث أدركت أهميته لها، فالعـراق يشاركها فى الإشراف على الخليج العربى، بل إن إيران تعـتبره جزءاً منها باعتباره سهل هضبتها، ويحتوى على العـتبات المقدسة ذات القيمة الدينية الكبيرة للشيعة الإثنى عشرية. كما جعلت من سوريا نموذجاً آخر لما سيكون عليه الشرق الأوسط الكبير بعـد إعادة هيكلته وتشكيله، بعد أن جعلتها أنقاض دولة وبقايا مجتمعات وأنهكت جيشها الذى كان يتمتع بمكانة كبيرة كأحد الجيوش القوية فى المنطقة، ثم وضعـتها تحت نفوذ إيران أيضاً على أن تُحافظ على الأوضاع المتردية التى وصلت إليها، حيث أدركت الولايات المتحدة أهمية سوريا لإيران التى تُعـتـبـرها المحافـظـة الإيرانية رقم 35، كما تعـتـبـرها أهـم من إقلـيـم خوزستان «الأهـواز» وهو ما عـبَر عـنه مهدى طائب رئيس مركز عـمَار الاستراتيجى الإيرانى بأن إيران لا يمكنها الاحتفاظ بطهران لو سقطت دمشق، بينما يمكنها استعادة إقليم خوزستان عـند سقوطه طالما تحـتـفـظ بدمشق، كما تُعـتبـر سوريا مـنـفـذ إيران الوحـيد على البحر المتوسط، أما النموذج الثالث لتفتيت وإضعاف الدول العربية بما يؤدى إلى إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، وصيانة بقاء إسرائيل وإحياء الإمبراطورية الفارسية ، فيكمن فى بسط نفوذ إيران على بعض الدول العربية بتأسيس كيانات موالية لها والتحكم فى أركانها ومؤسساتها «حزب الله فى لبنان ـ الحوثيين فى اليمن» وتصدر التوترات لدول الجوار الأخرى لاستنزاف ثرواتها وتحول دون وحدتها، وفى الأسبوع المقبل بإذن الله سأتناول محدداً آخر لبناء الاستراتيجية العربية الموحدة.

استاذ العلوم السياسية جامعة بورسعيد