رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من الرفض التام إلى الانتحار من أجله.. 38 عامًا على رحيل "ابن الثورة"

جريدة الدستور

تمر غداً الذكرى الـ38 لرحيل العندليب الأسمر، صاحب الصوت الكامل، الفنان الذي غنى للضحك واللعب ولم يجدهما، وغنى أول مرة تحب يا قلبي فكان الحب طيفًا لم يجده، فمشى من فوق الأشواك، وفي يوم من الأيام بدأت حكايته فظلمه الناس في البداية ورموه بقشور الفواكه، إلا أن من يملك الحس العالي فلا بد من أن يسطع نجمه مهما تلبدت السماء بالغيوم، فغنى على نفس المسرح، وكادت أيادي الجماهير أن تنكسر من شدة التصفيق، إنه الفنان "عبد الحليم حافظ".

"حليم".. أشهر من غنى في حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ويعد واحدًا من أكثر المطربين شعبية في تاريخ الغناء العربي، حيث تعرفه كل الأجيال، كانت حياته حافلة بالإثارة والعطاء والأمجاد في الفن بوجه عام، ومن خلال مشاركته في الأحداث الوطنية، وعلى مستوى حياته الشخصية الخصبة المليئة بالأحداث، نتعرف عليه من خلال الأسطر التالية..

نشأة العندليب
ولد عبد الحليم علي شبانة، والشهير فنيًا بعبد الحليم حافظ في 21 يونية 1929، بقرية الحلوات، التابعة لمركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، وهو الابن الأصغر بين أربعة أخوة هم: محمد، وعلية، وأكبر أخوته هو إسماعيل شبانة، الذي كان مطربًا ومدرسًا للموسيقى في وزارة التربية. نشأ "حليم" يتيمًا من يوم ولادته حيث توفيت والدته، وقبل أن يتم عبد الحليم عامه الأول توفى والده، وعاش بعدها في بيت خاله الحاج متولي عماشة.

بدايته الفنية
التحق العندليب بكتاب الشيخ أحمد لتعليم القرآن، ومنذ دخوله للمدرسة تجلى حبه العظيم للموسيقى، حتى أصبح رئيسًا لفرقة الأناشيد في مدرسته، ومن حينها وهو يحاول الدخول لمجال الغناء لشدة ولعه به، والتحق بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين عام 1943 حين التقى بالملحن الكبير "كمال الطويل" حيث كان عبد الحليم طالبا في قسم الآلات، وكمال في قسم الغناء والأصوات، ودرسا معًا في المعهد حتى تخرجهما عام 1948، ورشح للسفر في بعثة حكومية إلى الخارج لكنه ألغى سفره وعمل 4 سنوات مدرسًا للموسيقى بطنطا ثم الزقازيق وأخيرا بالقاهرة، ثم قدم استقالته من التدريس والتحق بعدها بفرقه الإذاعة الموسيقية عازفا على آلة الأبواه عام 1950، وتقابل مع صديق ورفيق العمر الأستاذ مجدي العمروسي في 1951 في بيت مدير الإذاعة في ذلك الوقت الإذاعي فهمي عمر.

جلال معوض يقدمه للجمهور
لم تكن بداية عبد الحليم كمطرب مبشرة بأي حال من الأحوال حيث قوبل بصافرات الاستهجان في معظم حفلاته الأولى، والتي قدم من خلالها مجموعة من أغنياته الخاصة مثل "صافيني مرة"، و قصيدة "لقاء" لصلاح عبد الصبور، حيث لم يكن الناس على استعداد لتلقى هذا النوع من الغناء الجديد، و لكن مع انتشار عدوى الثورة في كل مكان عقب يوليو 1952، أصبح المناخ معداً تماماً لاستقبال حليم ومعه جيل كامل من المبدعين، كانوا أشبه بجنود للثورة أكثر من كونهم فنانين عاصروها، و لا يوجد ما هو أدل على ذلك سوى تقديم المذيع الكبير جلال معوض لحفلة أضواء المدينة في يوم 18 يونيو 1953، و هو أول احتفال غنائي يقام بعد إعلان الجمهورية في مصر، حيث افتتح معوض إحدى وصلات الحفل بقوله: اليوم أزف لكم بشرى ميلاد الجمهورية، و المطرب عبد الحليم حافظ، و لم يكن هذا تقديمًا لمطرب شاب فحسب بل كان تنصيبًا لعبد الحليم كمطرب لمرحلة و جيل و أمة بأكملها تتطلع إلى التغيير.

مرحلة التألق
اكتشف الإذاعي الكبير حافظ عبد الوهاب موهبة عبد الحليم شبانة وسمح له باستخدام اسمه "حافظ" بدلا من شبانة، وأُجيز عبد الحليم في الإذاعة بعد أن قدم قصيدة "لقاء"، من كلمات صلاح عبد الصبور، ولحن كمال الطويل عام 1951، بينما قال البعض إن إجازته كانت في عام 1952 بعد أن قدم أغنية "يا حلو يا اسمر" كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي، وعموماً فإن هناك اتفاقاً أنه غنى (صافيني مرة) كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي في أغسطس عام 1952 ورفضتها الجماهير من أول وهلة حيث لم يكن الناس على استعداد لتلقى هذا النوع من الغناء الجديد، ولكنه أعاد غناء "صافيني مرة" في يونيو عام 1953، يوم إعلان الجمهورية، وحققت نجاحاً كبيراً، ثم قدم أغنية "على قد الشوق" كلمات محمد علي أحمد، وألحان كمال الطويل في يوليو عام 1954، وحققت نجاحاً ساحقاً، ثم أعاد تقديمها في فيلم "لحن الوفاء" عام 1955، ومع تعاظم نجاحه لُقب بالعندليب الأسمر.

تفاؤل وحب وأمل
بعد تقديمه قصيدة "لقاء" حتى بدء تصويره أول أفلامه "لحن الوفاء" عام 1955، ولم تكن أعراض مرض البلهارسيا قد تفاقمت لديه، نلاحظ في هذه الفترة أن عدد كبيراً من الأغاني تحوي نبرة من التفاؤل مثل: "ذلك عيد الندى"، "أقبل الصباح"، "مركب الأحلام"، "في سكون الليل"، "فرحتنا يا هنانا"، "العيون بتناجيك"، "غني..غني"، "الليل أنوار وسمر"، "نسيم الفجرية"، "ريح دمعك"، "اصحى وقوم"، "الدنيا كلها"، كما تتحدث بعض هذه الأغاني عن الطبيعة الجميلة، مثل: "الأصيل الذهبي"، "هل الربيع"، "الأصيل". كما تتناول بعض الأغاني العاطفية ذكر الطبيعة الجميلة في إطار عشق الإنسان لكل ما هو جميل مثل "ربما"، "في سكون الليل"، "القرنفل"، "حبيبي ف عنيه"، "صحبة الورد"، "ربيع شاعر"، "الجدول"، "أنت إلهام جديد"، " "هنا روض غرامنا"، "فات الربيع"، لكن مع تفاقم مرض البلهارسيا لديه بدءاً من عام 1956، نلاحظ أن نبرة التفاؤل بدأت تختفي من أغانيه تدريجياً، وتحل محلها نبرة الحزن في أغانيه.
رحلة مع كبار الملحنين
غنى العندليب، أكثر من 230 أغنية، امتازت بالصدق، والإحساس، والعاطفة، إلى جانب بعض الابتهالات الدينية منها "على التوتة، أدعوك يا سامع، ورحمتك في النسيم، والحبة في الأرض"، وتعاون حليم مع كبار الملحنين أمثال العبقري محمد الموجي وكمال الطويل ثم بليغ حمدي، كما أنه له أغاني شهيرة من ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مثل: (أهواك، نبتدي منين الحكاية، فاتت جنبنا)، ثم أكمل الثنائي (حليم - بليغ) بالاشتراك مع الشاعر المصري المعروف محمد حمزة أفضل الأغاني العربية من أبرزها: زي الهوا، سواح، حاول تفتكرني، أي دمعة حزن لا، موعود وغيرها من الأغاني، وقد غنى للشاعر الكبير نزار قباني أغنية قارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء والتي لحنها الموسيقار محمد الموجي.

ابن الثورة
أطلق عليه العديد من الألقاب منها "ابن الثورة"، نسبة إلى ثورة 1952، حيث لقي قبولاً لدى قيادة ثورة يوليو 1952 التي وجدت أمامها مطربًا شابًا يحاول اعتماد أوراق شهرته كأي شاب يتقدم بأوراقه إلى وزارة القوى العاملة، وفـي ظل أبوية القائد التي جسدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ورمز الأمومة الذي لعبته "الست" أم كلثوم، اكتملت الدائرة بالابن الذي يتعاطف معه الجميع، وهو ما تقمصه العندليب عبد الحليم، وبالفعل تم قبول أوراق عبد الحليم، خاصةً بعد أن تبين للجميع أن هذا الصوت الغنائي يستطيع تعويض ضعف حنجرته ومحدودية مقامات صوته، بالجاذبية التي تكمن فـي نبرات هذا الصوت، ويستطيع الميكروفون تجسيمها، ولم تكد تنجح ثورة يوليو 1952، حتى بدأ عبد الحليم مسيرته فـي تقديم الأغنيات الوطنية بنشيد "العهد الجديد"، بالاشتراك مع عصمت عبد العليم، تأليف محمود عبد الحي وتلحين توفيق عبد الحميد زكي، وكان ترجمة غنائية لشعار "الاتحاد والنظام والعمل" الذي نادى به الرئيس محمد نجيب، والأغنية الثانية "وفاء"، كلمات محمد حلاوة وألحان محمد الموجي، والثالثة "بدلتي الزرقا" كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد الحميد توفيق زكي، ثم أغنية "ثورتنا المصرية.. أهدافها الحرية، وعدالة اجتماعية، ونزاهة وطنية"، كما كان صديقاً للزعيم الحبيب بورقيبة، والحسن الثاني، والملك حسين.
سينما وإذاعة الأسمراني
قدم عبد الحليم، في مجال السينما ستة عشر فيلمًا سينمائيًّا؛ منها "لحن الوفاء، أيامنا الحلوة، ليالي الحب، أيام وليالي، أبى فوق الشجرة، الوسادة الخالية"، وقدم مسلسلًا إذاعيًّا وحيدًا، وهو "أرجوك لا تفهمني بسرعة" سنة 1973 برفقة نجلاء فتحي وعادل إمام قصة محمود عوض وإخراج محمد علوان.

من تكون حبيبته
حبيبة عبد الحليم حافظ كانت وما زالت لغزاً حيّر الجميع، فمن هي؟ وكيف التقاها؟ وما هي مواصفات المرأة التي وقع «العندليب» في غرامها؟ كل هذه الأسئلة كانت تتردّد في أذهان الأصدقاء والمقرّبين قبل الجمهور، بينما كان عبد الحليم يفرض سرية تامة حول هذه العلاقة، ولم يكن يسمح لأصدقائه المقرّبين بالدخول في أي من تفاصيلها من قريب أو بعيد، وبدأ الكلام يتجدّد مرة أخرى حول حبيبة عبد الحليم، وتفاصيل العلاقة التي جمعت بينهما، بعد تقديم شخصية «ديدي» في فيلم «حليم»، وجسّدته الفنانة السورية سلاف فواخرجي، وتم تجسيد الشخصية نفسها في مسلسل «العندليب»، الذي شاهدناه خلال شهر رمضان الماضي، وأثار ضجة كبيرة، وجسّدت دور حبيبة عبد الحليم هذه المرة الفنانة الشابة هايدي كرم، وعقد الجمهور مقارنة بين الاثنتين، وأيهما نجحت في تجسيد الدور؟! وكانت الإجابة عن هذا السؤال أمراً في غاية الصعوبة؛ حيث إن أحداً من أصدقاء عبد الحليم المقرّبين لم يشاهد حبيبته، وبالتالي لا يستطيع أحد الإجابة عن هذا السؤال.

أسرار مع وجدي الحكيم
الإذاعي الكبير وجدي الحكيم أحد أصدقاء «حليم» المقرّبين قال منذ عدة سنوات: من يدّعي أنه شاهد حبيبة عبد الحليم حافظ، فهو غير صادق في كلامه؛ فعبد الحليم كان تقدّمياً ومتحرّراً في أغانيه، ولكن الأمر يختلف في ما يتعلق بالمرأة، فلم يكن أحد يرى أقاربه أو يختلط بهم، وقد خصّص لهم جناحاً داخل شقته بعيداً عن حجرة الصالون، التي يلتقي فيها أصدقاءه والمؤلفين والملحنين، حتى إن علية شبانة شقيقته المقرّبة إليه، والتي كانت ملازمة له في كل خطواته لم تنشر لها الصحف صورة أثناء حياة عبد الحليم، وهو ما اختلف بعد وفاته، وأضاف الحكيم: أن الشخص الوحيد الذي شاهد حبيبة عبد الحليم هو عبد الفتاح سائقه الخاص، الذي كان العندليب يأتمنه على أسراره. وعندما كنا نسافر خارج البلاد مع عبد الحليم كان يلتقي بها في سرية شديدة، وفي إحدى المرات سألت الملحن بليغ حمدي عن سر علاقة عبد الحليم بهذه السيدة، فأخبرني بأنه لا يعرف أكثر مما أعرف، وعن حالة عبد الحليم بعد وفاة حبيبته قال الحكيم: كنت ملازماً له خلال هذه الفترة، وعرفت بوفاتها من خلال حالة الحزن الشديد التي عاشها عبد الحليم، وقد شعر الجميع بما مرّ به عبد الحليم وقتها، وكان دائم السفر إلى الإسكندرية حيث التقاها للمرة الأولى.

صراع مع المرض
منذ صغر العندليب كان يلعب مع أولاد عمه في ترعة القرية، ومنها انتقل إليه مرض البلهارسيا الذي دمر حياته، ولقد قال مرة أنا ابن القدر، وكانت أول مرة عرف فيها بهذا المرض عام 1956 م عندما أصيب بأول نزيف في المعدة وكان وقتها مدعواً على الإفطار بشهر رمضان لدى صديقه مصطفى العريف، ولم يكن لذلك المرض علاج وقتها وفي سنــواته الأخيرة سافر إلى لندن وعلى الــرغم من أنه قام بعدة عمــليات ألا أن عبد الحليم لم يستطع أن يقاوم المرض الذي أزهق أنفاسه في الغربة، وبينت بعض الآراء أن السبب المباشر في موته هو خدش المنظار الذي أوصل لأمعائه مما أدى إلى النزيف وقد حاول الأطباء منع النزيف بوضع بالون ليبلعه لمنع تسرب الدم ولكن عبد الحليم مات ولم يستطع بلع البالون الطبي.

وفاته وانتحار محبيه
كانت وفاة عبد الحليم بمثابة الصدمة على كل الأجيال التي أحبته وغنت أغانيه في أشد لحظاته فرحا وحزنا، وتوفي حليم 30 مارس 1977 بإحدى المستشفيات الكبرى في لندن عن عمر ناهز الثمانية والأربعين عاما، وقد تم تشييع جثمانه في جنازة مهيبة لم تعرف مصر مثلها سوى جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سواء في عدد البشر المشاركين في الجنازة، أو في انفعالات الناس الصادقة وقت التشييع، لدرجة حالات انتحار لبعض الفتيات بعد معرفتهن بوفاته.