المتغـيـرات الدولية والإقليمية وتأثيرها على المنظور الأمريكى «٦»
ويتطلب بناء مثل هذه الاستراتيجية إعـداد دراسة وافية عن الموقف الاستراتجى تخلص إلى تصور رؤية ورسالة واضحة تحدد جميع أشكال التهديدات والتحديات التى تُعـيـق بناءها «كمحددات بناء هذه الاستراتيجية»، وتحلل القدرات العربية الحقيقية السياسية والاقتصادية والأمنية والعـسكرية والاجتماعـية بدقة «كمرتكزات بناء الاستراتيجية» بما يضمن سلامة تحديد الأهداف الاستراتيجية وأدوات ومراحل وتوقيتات تحقيقها وفقاً للقدرات العربية الفعلية، ثم بدأت بالمحددات العالمية فتناولت تأثير إصرار الغرب على الاحتفاظ بمركز الهيمنة فى قلب الولايات المتحدة وانفرادها بالهـيمنة على النسق العالمى، كما تناولت تأثير هـيمنة دول المنظومة الرأسمالية على الاقتصاد العالمى وتوجه الأنساق الإقليمية لبناء تكتلات اقتصادية عملاقة. وأتناول اليوم المحتوى الفكرى للمنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى باعتباره أحد أهم محددات بناء الاستراتيجية العربية الموحدة، إذ يتمثل هدف هذا المنظور فى ضرورة عـدم قيام قوة عالمية أو إقليمية قادرة على التحكم فى إقـليم حيوى مثل المنطقة العربية كأحد الاشتراطات الرئيسية لاحتفاظها بمركز الهيمنة واستمرار سيطرتها على العالم، وعـدم إزاحته فى اتجاه الشرق فى اتجاه روسيا والصين، فكيف يكون الحال إذن عـندما تكون هذه القوة هى الدول العربية نفسها، وهو الأمر الذى وضعه بريجنسكى مستشار الأمن القومى للرئيس كارتر فى حساباته الاستراتيجية أثناء وضع المحتوى الفكرى لهذا المنظور بأنه «يتعـين أن تسود المنطقة فوضى عارمة، إلا أنها ستشكل عـبئاً اقتصادياً ثقيلاً على الولايات المتحـدة، ولذلك يتعـين تعـظيم دور القوى الإقليمية غـيـر العـربية «إسرائيل وتركيا وإيـران وإثيوبيا» ولتنفيذ هذه الفوضى التى عـبرت عـنها كونداليزا رايس بالفوضى الخلاقة فى 2004، يتعـين تفتيت الدول العربية وتقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها تركيا وإيران بالوكالة عـن الولايات المتحدة فى مقابل أن يتحملا الأعـباء التى تترتب على ذلك»، وعهد برجنسكى لوضع رؤيته موضع التنفيذ إلى برنارد لويس الذى بنى خطته على ثلاثة محاور، الأول هو استثمار التناقضات العـرقية والعـصبيات القبلية والطائفية والدينية لتقسيم وتفتيت الدول المركزية إلى وحدات صغـيـرة وتوطين أهلها على أساس العـرق أو الدين أو المذهب، والثانى هو تدمير الثقافة الدينية وتخليص شعـوب المنطقة من المعتقدات الإسلامية وتطبيقاتها، والمحور الثالث هو إعادة احتلال المنطقة إذا اقتضى الأمر ذلك، وفى جلسة سرية وافق الكونجرس الأمريكى بالإجماع على هذا المشروع عام 1983.
وكانت أهم أدوات تحقيق المحور الأول هى إغـراق بعض شعـوب المنطقة العـربية فى ثورات فوضوية تفتقر إلى قيادات تُسيطر عليها وتقود تفاعلاتها، ودون أن تمتلك مشروعاً قومياً تلتف حوله الشعـوب، فانجرت هذه الشعـوب إلى منزلقات التقاتل والتناحر والتباغض، ولم تتمكن من إفراز نخب يمكنها قيادة دولها، وتمثلت أداة تحقيق المحور الثانى فى تشويه صورة الإسلام الحنيف وإبرازه كدين للإرهابيين فعملت على توطين تنظيم «الدولة الإسلامية» فى العراق والشام لطمس القيم الإسلامية السمحة، ومهدت لتأجيج صراعات دينية وطائفية وإثنية مقبلة لا محالة، ولتأكيد ذلك فإنه يمكن ملاحظة أن ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية فى المنطقة العـربية إدارة الصراعات وليس سعـياً لحلها لاستعادة الاستقرار الأمنى والسياسى للمنطقة، أما أدوات تحقيق المحور الثالث فتمثلت فى تقسيم وتفتيت الدول المركزية وإعادة توطين شعوبها على أساس تركيبة مجتمعاتها الدينية والطائفية والعرقية، مع مراعاة الأقليات وبدأت بالعراق ثم ليبيا ثم اليمن، ولذك فإنها تعتبر الحدود الراهنة بين الدول العـربية هى حدود مؤقتة رسمها المستعـمر، سيتم إعادة ترسيمها لتصبح نهائية بعـد الإنتهاء من عـملية إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير.. وللحديث بقية الأسبوع المقبل بإذن الله.
أستاذ العلوم السياسية - جامعة بور سعيد