رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهدوء التالى للعاصفة


ما زال هناك سؤال عن تنظيم المظاهرة خصوصاً أن هناك منا من يرى أن نستفيد من التجربة الفرنسية، وأن ننظم مظاهرة تستنكر ما يحدث فى القضايا العربية، ولست ممن يشجعون هذا الراى فنحن مبدئياً من أوائل من مارسوا المظاهرات المليونية، ولسنا بحاجة لاستعارة خبرة الآخرين.

كانت حادثة إطلاق النيران على مقر صحيفة «شارلى إبدو» الفرنسية مثار الأحاديث لفترة ليست بالقصيرة، وقد شملت الأحاديث الكثير، خاصة حول المظاهرة التى انطلقت فى باريس وشارك فيها قادة أوروبيون وعرب ومن أمريكا، كما شارك فيها رئيس الوزراء الصهيوني، كما أثارت قضايا الاستفزاز الدينى وحرية التعبير، وقضايا الكيل بمكيالين، بل لقد أعادت الحديث عمن قام بأحداث 11 سبتمبر ومسئوليتها، واتسمت أغلب التعليقات بالعصبية، لكن القليلين، بل نادراً من فكر فى حلول تمنع تكرار مثل هذا الحادث.

بادئ ذى بدء علينا أن نقوم بتقييم ما حدث حتى نخرج باستنتاجات صحيحة، فالواقع أن مجموعة من الأفراد هاجمت مقر صحيفة شارلى إبدو التى تنشر رسومات وكلاما يسىء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن هذه الرسومات والكلمات تثير مشاعر مسلمين ربما يكونون شديدى الحساسية لمثل هذه الممارسات، كما أن هناك منظمات وجماعات تستغل مثل هذه الممارسات لإثارة المشاعر وتوجيهها لخدمة أهدافها. المهم أن مجموعة هاجمت مقر الجريدة، وقتلت بعض محرريها وأربعة من أشهر رساميها، بينما قامت مجموعة أخرى بمهاجمة محل يبيع بعض المأكولات اليهودية واحتجزت بعض الزبائن رهائن، بل وقتلت آخرين.

انتفضت الحكومة الفرنسية وبقيادة رئيس الجمهورية ونظموا مظاهرة مليونية فى باريس، ودعت قادة العالم للانضمام إليها، وقد لبى الدعوة نحو خمسين من قيادات الدول على مستوى الرئيس أو رئيس الحكومة أو ما شابه ذلك، بينما انضم إليها فرنسيون كثيرون، وحملوا لافتات تشير إلى رفضهم الجريمة، وأعلن الكثيرون تضامنهم مع أسرة الصحيفة الفرنسية، وأنهم يعتبرون أنفسهم من أسرتها، وانتهز رئيس الوزراء الصهيونى الفرصة ليقوم بالدعاية لهجرة اليهود الفرنسيين إلى فلسطين المحتلة ضارباً بالعلاقات الفرنسية مع دولته الصهيونية عرض الحائط.

استفزت القضية كثيرين من العرب والمسلمين حيث اهتزت أوروبا لمقتل 14 فرنسياً، بما لم تهتز له عند استشهاد آلاف الفلسطينيين فى العدوان الصهيونى على غزة، ولا فى أى حالة أخرى تعرض فيه عرب أو مسلمون للخطر، بل إنهم لا يهتزون للخسائر اليومية فى كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن، رغم أن الغرب هو السبب فى معاناة هذه الشعوب، بتجنيد العملاء وتوفير الأموال والإمداد بالسلاح والذخيرة، لكن كثيراً ممن استفزتهم الأحداث لم يدركوا الخط الفارق بين استنكار الكيل بمكيالين، ومسؤولية الدول وتبرير القتل والإرهاب فكلاهما تجب إدانته، وأخطاء وجرائم الدول الغربية لا تبرر قتل أبرياء، ولا حتى مشتبه بهم، كما لا يجوز أن يعين بعضهم أنفسهم مدعين وقضاة وسجانين وجلادين ومهما كانت أخطاؤهم.

كان حضور المظاهرة لافتاً، لكنى لاحظت أن الغالبية العظمى من الحاضرين ذهبوا لانتهاز الفرصة لتحقيق مصلحة لهم، وهذا ينطبق بشكل خاص على القيادات الرسمية التى حضرت، بينما كان العدد الأكبر من الفرنسيين المسلمين الذين يخشون أن يتعرضوا للاضطهاد نتيجة للحادث، وهو ما يجعل الصورة تبدو مختلفة، وتثير السؤال عما إذا كانوا سيتعرضون للاضطهاد والتمييز. وإن كنت لاحظت أن كثيراً من القيادات الأوروبية أصبحت حريصة على التفرقة بين المسلمين والإرهابيين، وعلينا أن نعمل على استمرار ذلك.

ما زال هناك سؤال عن تنظيم المظاهرة خصوصاً أن هناك منا من يرى أن نستفيد من التجربة الفرنسية، وأن ننظم مظاهرة تستنكر ما يحدث فى القضايا العربية، ولست ممن يشجعون هذا الرأي، فنحن مبدئياً من أوائل من مارسوا المظاهرات المليونية، ولسنا بحاجة لاستعارة خبرة الآخرين، لكن هناك أسئلة أخرى. ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن مجموعة قامت بعمل إرهابى أثناء المظاهرة، خاصة أنه لا يتطلب عدداً كبيراً، وأن الإرهابى كثيراً ما لا يهتم ببقائه حياً، والسؤال الأخطر هو: كيف نضمن عدم استغلال المظاهرات كغطاء للعمل الإرهابي؟

لكن الأهم هو كيف نستفيد من التجربة، وأعتقد أن أهم ما يجب أن تتجه إليه الجهود هو الدعوة وبإلحاح إلى تعاون دولى ضد الإرهاب، تعززه أدلة بأن الإرهاب لا يستمر كثيراً فى مكانه وينتشر إلى أقصى أركان الدنيا، ولا يظنن أحد أنه آمن فى مكانه. فإذا استقر الرأى على التعاون فى مجال محاربة الإرهاب، فعلينا أن نحدد أهم عناصر التعاون، ويأتى على رأسها تبادل المعلومات عن العناصر الإرهابية، ثم التعاون فى محاصرتها والقبض عليها ومحاسبتها، وهكذا نكون قد استفدنا من التجربة بعد أن انقشعت العاصفة! وفى مجال آخر فإن حرية التعبير لا يجوز أن تستثير مشاعر الآخرين، وإلا منحناه الفرصة لممارسة الإرهاب.

■ خبير سياسى واستراتيجى