رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المنطقة العازلة بين المقامرة والمؤامرة


يمكن تحديد هدف الولايات المتحدة وهو إقصاء الدور الروسى والصينى من المنطقة العـربية «قلب العالم الذى يمنح التفوق لمن يسيطر عليه»، أما تركيا فتهدف إلى إحياء دولة الخلافة السنية تحت راية العـثمانيين الجدد لتكون سوقاً بديلة للسوق الأوروبية، بعـد إدراكها الأسباب الحقيقية لرفض انضمامها للاتحاد الأوروبى،

فرضت الصفقة الأمريكية التركية بشأن إقامة منطقة عازلة فى المنطقة الحدودية السورية نفسها على الساحتين الإقليمية والعالمية باعتبارها أحد المتغيرات الرئيسية التى ستؤثر على تفاعلات القوى الفاعلة فى منطقة الشرق الأوسط، فالمراقب لتفاعلات السلوك السياسى التركى يمكنه إدراك مغـزى التلكؤ التركى فى المشاركة فى التحالف الدولى، أو ما يُعـرف بالسيناريو الهابط للولايات المتحدة ضد «داعش»، فتارة تتحجج بضرورة إقامة منطقة عازلة Buffer Zone، وتارة تتحجج بإقامة منطقة آمنة Safe Area يعلوها منطقة حظر جوى، فكلا المصطلحين ذَوَىّ مفهوم واحد، فالمنطقة العازلة لابد أن يعلوها منطقة حظر جوى وفقاً للقانون الدولى، وأن يصدر بشأنها قرار من مجلس الأمن وهو ما سيقابل بالفيتو الروسى والصينى، فما الأسباب الحقيقية التى أدت إلى التوصل إلى مثل هذا الاتفاق؟ وما أهدافه؟ وهل يمكن القول إن تركيا قد فرضت إرادتها على الولايات المتحدة، ولماذا رضخت الولايات المتحدة لرغـبات تركيا؟ وهل صحيح أن تركيا قامت بتهديد الولايات المتحدة بالانسحاب من حلف الناتو حيث تمثل أكبر قوة برية فيه، وثانى أكبر قوة عسكرية بعـدها فخشيت من انهيار الحلف؟

للإجابة على هذا الكم المتلاحق من التساؤلات التى تدور فى الأذهان الآن فإنه يتعين توضيح بعض الاعتبارات لتوضيح المقامرة التى يجيدها أردوجان وأوباما، ويتمثل الاعتبار الأول فى إصرار الولايات المتحدة على الاحتفاظ بمركز الهـيمنة على العالم والذى يتطلب عدم قيام قوة عالمية أو إقليمية تكون قادرة على التحكم فى إقليم حيوى مثل المنطقة العـربية، ويكمن الاعتبار الثانى فى سعى روسيا الدءوب إلى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى باعتبارها القطب الثانى فى عالم اليوم على الأقل من الزاوية العـسكرية، والاعتبار الثالث هو أن الصين تأبى أن يكون دورها هامشياً مثلما كان فى النظام الدولى ثنائى القطبية بشقيه المرن والمحكم أو فى النظام الدولى الراهن أحادى القطبية، أما الاعـتبار الأخير فهو سعى القوى الإقليمية غير العـربية «تركيا وإيران وإسرائيل» إلى حصـد مزيد من المكاسب من تداعيات ما يسمى بـ«الربيع العـربى» لتحقيق مشروعاتها القومية فى الوقت الذى تسعى فيه مصر إلى استعادة توازنها الذى فـقـدته إبان حكم الجماعة الإرهابية.

وترتيباً على ذلك فإنه يمكن تحديد هدف الولايات المتحدة وهو إقصاء الدور الروسى والصينى من المنطقة العـربية «قلب العالم الذى يمنح التفوق لمن يسيطر عليه»، أما تركيا فتهدف إلى إحياء دولة الخلافة السنية تحت راية العـثمانيين الجدد لتكون سوقاً بديلة للسوق الأوروبية، بعـد إدراكها الأسباب الحقيقية لرفض انضمامها للاتحاد الأوروبى، إذ يُمثل الاختلاف الجذرى لنسقها القيمى والنسق القيمى لدول غرب أوروبا- دينياً وثقافياً- السبب الرئيسى الأول، بينما يُمثل التناقض الكبير بين نسقها الاجتماعـى والنسق الأوروبى السبب الحقيقى الثانى، خاصة فيما يتعلق بمعـدلات النمو السكانى، حيث يبلغ فى تركيا عشرة أضعاف النمو فى معـظم دول أوروبا، وهو ما سيجعـل هذه الدول مضطرة إلى استيعاب فائض العـمالة التركى الضخم عـند قبول عضويتها، مما سيخل بتوازن نسقها الاجتماعى.

وتكمن أخطار هذه المقامرة عـند بروز الأزمات السياسية والاقتصادية وربما العسكرية بين الولايات المتحدة وتوابعها ، وبين كل من روسيا والصين أو كلتاهما، وتصل إلى حد المواجهة، فعـندئـذ تقع المنطقة العـربية «قلب العالم المتنافس عليه» بين خطـرين داهمين، أولهما أن تكون المنطقة منطقة «الـتحام»عـندما تبتلعها إحدى القوى المتصارعة، وثانيهما أن تكون منطقة «ارتطام» حينما تكون عاجزة فى الحالتين عن درء الخـطر عـن نفسها. أما المؤامرة فتتمثل فى أن تشارك تركيا فى التحالف الدولى بقواتها البرية إذا تطلب الموقف ذلك، واستخدام قاعـدتى «كورتشك» و«أنجرليك» فى مقابل إعلان الولايات المتحدة عـدم تصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية، وألا تغـير نظرتها للجماعة طالما أن الجماعة متمسكة بسياستها الداعـية لنبذ العنف، بالإضافة إلى زيادة الضغط على مصر والتلويح بتقرير منظمة حقوق الإنسان بشأن الممارسات القمعية للنظام المصرى كما تدعى المنظمة، حتى يسمح النظام بأن تكون الجماعة طرفاً فى المعادلة السياسية المصرية، إذ ستظل الجماعة الإرهابية تُعـتبر إحدى الأدوات الرئيسية فى الاستراتيجيتين الأمريكية والتركية لتحقيق مشروع ما يُسمى بـ«الشرق الأوسط الكبير»، وتحقيق مشروع إحياء دولة الخلافة السنية تحت راية العـثمانيين الجدد، وفى سياق التآمر، فقد حضر أردوجان الاجتماع الأخير للتنظيم الدولى للجماعة الإرهابية فى إسطنبول للتخطيط للتحركات التى يمكن إجراؤها لزعزعة استقرار مصر حتى إحياء ذكرى 25 يناير، حيث وعد طاغية تركيا باستمرار تقديم الدعم المادى والمعنوى للتنظيم الدولى لاستعادة الشرعية المزعومة، والعودة المستحيلة لخائن وطنه، وفى الأسبوع المقبل بإذن الله نعـود لموضع العلاقات الدولية بين التقارب والتباعـد.

أستاذ العلوم السياسية- جامعة بورسعيد