رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأزهر.. وفهم عموم الدين


حقيقة الأمر، هل يمكن لشعب بأكمله أن يتخلى عن مسئوليته فى أى أمر من أموره يستوى فى ذلك اختيار حكومته، أو نوع اقتصاده، أو إعلان الحرب، أو تحقيق السلام أو إصدار القوانين والتشريعات؟

هل من حق الأزهر الشريف أن يطالب عموم المسلمين فى مصر بتفويضه فى أمر فهم دين الله، هل من «حق» العامة أن يتخلوا عن «واجبهم» فى فهم دينهم؟ هل من حق الأب أن يتخلى عن مسئوليته فى رعاية أطفاله؟ هل من حق رجال الشرطة أن يتخلوا عن واجبهم فى توفير الأمن للشعب؟ هل من حق رجال الجيش أن يتخلوا عن واجبهم فى حماية أرض الوطن؟ كان الفقهاء الجدد على وعى كذلك بأن علماءنا الأجلاء فى الأزهر الشريف قد نبهونا إلى أننا هنا نتحدث عن «المختصين»، وإلى أنهم يتفقون معنا فى أنه ليس من حق المختصين التخلى عن القيام بعملهم، إذ إن فى هذا ضرراً بالغاً بالمجتمع.

كما أنهم قد نبهونا أيضاً إلى أن من «الظلم» مطالبة العامة بالقيام بعمل أهل الاختصاص ـ أى أنه على حين لا يمكن إعطاء الأطباء، حق التخلى عن عملهم، فإن من الظلم إلزام العامة بالقيام بعمل الأطباء بشكل أوضح نبهنا علماؤنا الأجلاء إلى أنه على حين لا يقبل عاقل فكرة إعطاء أهل التخصص حق التخلى عن القيام بعملهم فإنه لا يمكن لعاقل كذلك أن يقبل فكرة إلزام غير المتخصص بالقيام بعمل لا يعرفه، لم يعد السؤال بهذا الشكل «ما إذا كان من حق العامة التخلى عن «واجبهم» فى فهم دينهم، بل أصبح هل من واجب العامة فهم دينهم؟ يمكن القول بأن الفقهاء الجدد قد نظروا إلى هذا السؤال من عديد من الزوايا اجتماعية وعلمية وإيمانية وعملية وأخلاقية.

كان السؤال، من الناحية الإيمانية، يتعلق بمعنى أن يؤمن الإنسان بما لا يفهم، كيف يؤمن إنسان بما لا يفهم؟ كان السؤال، من الناحية الإيمانية كذلك يتعلق بما إذا كان بإمكان المؤمن أن «يفوض» غيره فى أن يفهم له، هل يمكن أن يقبل الله منا أن نفوض غيرنا فى فهم ديننا؟ ماذا يحدث إذا كان هذا الفهم خاطئاً، هل سيعاقبنا الله عليه؟، ماذا يحدث إذا كان صائباً: هل يثيبنا الله عليه أم هل سيعاقبنا الله أم سيثيبنا على تخلينا عن فهم دينه وتفويضنا تلك المهمة إلى أهل التخصص؟ كان السؤال من الناحية الإيمانية أيضاً يتعلق بما إذا كان من الممكن النظر إلى ما يطالب به علماؤنا الأجلاء فى الأزهر الشريف بقصر العمل على فهم دين الله عليهم على أنه محاولة لإنشاء «كهنوت» فى دين لا يعترف بكهنوت. كان السؤال، من الناحية الاجتماعية يتعلق بما إذا كان من الصواب ترك أى مؤسسة اجتماعية تعمل ما ترى أنه الصواب فى غيبة كاملة عن الرقابة الاجتماعية يستوى فى ذلك بطبيعة الحال الجيش المصرى مع الشرطة المصرية، والجامعات المصرية، والقضاء المصرى، بل ورئيس الدولة ذاته.

هل من الصواب أن نفوض علماءنا الأجلاء فى الأزهر الشريف بفهم ديننا ومن ثم إخبارنا بما فهموه؟ وإذا اتفقنا أن ذلك ليس من الصواب فكيف تتحقق هذه الرقابة ونحن أصلاً لا نفهم ما يقومون به؟ يعنى ذلك، بطبيعة الحال أن علينا أن نفهم مهام عملهم من أجل التحقق من سلامة ما يقومون به. وفى هذه الحالة، أى فى حال فهمنا لعملهم، تنتفى الحاجة إلى التفويض حيث إننا نفهم، كيف يمكن لمن يتحقق من سلامة العمل ألا يكون فاهماً؟ كان السؤال من الناحية الاجتماعية كذلك يتعلق بصواب ما يطالب به الأزهر من العمل على إبعاد العامة عن محاولة فهم دين الله. كان السؤال هنا كالتالى: هل من مصلحة المجتمع المصرى أن يتألف من مجموعة من العامة لا تفهم ما تؤمن به ومجموعة من الخاصة تخبر هؤلاء العامة بما يتوجب عليهم القيام به؟ كان السؤال من الناحية العملية يتعلق بطريقة تنفيذ مطلب الأزهر. ما ذا يعنى بالضبط، ترك الاشتغال بفهم دين الله لأهل التخصص من علماء الأزهر فقط؟ هل يعنى عدم السماح للعامة بالتفكير فى أمور الدين أم عدم الحديث مع الآخرين فى أمور الدين؟ أم عدم الكتابة فى أمور الدين ما الذى يطالب به علماؤنا الأجلاء بالضبط؟ كان واضحاً تماماً أنه من المستحيل مطالبة العامة بعدم التفكير فى الدين فهذا طلب لا يستطيع حتى العامة الاستجابة له. كان واضحاً كذلك أن من المستحيل مطالبة العامة بعدم الحديث فى الدين فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين الجماهير على الفضائيات. كان من المستحيل كذلك مطالبة العامة بعدم الكتابة.

فى عصر الإنترنت يستحيل أن تمنع إنساناً من كتابة ما يريد لا يتبقى إذن سوى أن علماءنا الأجلاء يطالبون إما بتجريم التحدث إلى الجماهير أو الكتابة إلى الجماهير. وهذا مطلب إن لم يكن مستحيلاً اليوم فسيكون مستحيلاً غداً، فى عالم اليوم لم يعد مسموحاً لحى من أحياء القرية الكونية أن يمنع «أهل الحى من التعبير عما يفكرون فيه حتى لو كان عدد أهل الحى يزيد على 85 مليوناً يستحيل «تجريم» التعبير عما تفكر فيه. وكان السؤال من الناحية العلمية كذلك يتعلق بما إذا كان من الصواب الاستجابة لمطلب الأزهر بقصر فهم الدين على علمائنا الأجلاء فى الأزهر الشريف، يعود ذلك إلى أن «حُلم» كل معهد علمى هو «نشر العلم». حقيقة الأمر، لا توجد مؤسسة علمية تعمل فى مجال البحث العلمى إلا وهى تسعى لنشر ما توصلت إليه وترحب بأى تصويب له.

يستثنى من ذلك، بطبيعة الحال، المؤسسات العلمية فى قطاع صناعة الأسلحة أو الصناعات التجارية حيث تحرص الشركات على حماية سرية ما توصلت إليه. لم يكن الأزهر الشريف فى يوم من الأيام منشغلاً بصناعة الأسلحة ولا بتحقيق الربح من وراء أبحاثه. كان السؤال، من الناحية العلمية كذلك، يتعلق بما إذا كان من الصواب أن نتوقع من الأزهر الشريف أن يقوم فعلا بفهم دين الله؟.

حقيقة الأمر، هل يمكن لشعب بأكمله أن يتخلى عن مسئوليته فى أى أمر من أموره يستوى فى ذلك اختيار حكومته، أو نوع اقتصاده، أو إعلان الحرب، أو تحقيق السلام أو إصدار القوانين والتشريعات؟

■ أستاذ القانون الدولى