رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العـراق بين التدخل والتقسيم «3»


والآن وبعـد توضيح رؤية برجينسكى الاستراتيجية وما صرح به بيرنارد لويس، هل يمكن القول إن مشروع تقسيم وإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، الذى جعـلت الولايات المتحدة حدوده ومكوناته تتطابق مع حدود ومكونات العالم الإسلامى قد بدأ فعلا فى كل من سوريا والعـراق؟ ذلك ما سأتناوله فى المقال المقبل بإذن الله.
فى المقال السابق تم بتحليل محتوى المنظـور الجيوبوليتيكى الإيـرانى الذى يهدف إلى إحياء الإمبراطوريـة الفارسية، والذى ظل ثابتا لا يتغـيـر منذ الفتح الإسلامى لإيران عـندما تمكن البـرامكة من السيطرة على مفاصل وأركان الدولة العـباسية ، ثم تأكد فى فتـرة إيـران الشـاه ، لكنه ترسخ مع تأسيس إيـران الـثـورة ، كما تم توضيح أهمية العـراق الجيوستراتيجية لإيران، حيث يشاركها فى الهيمنة على الخليج العربى، وتعـتبره إيران جزءا منها باعتباره سهل هضبتها، ويحتوى على العـتبات المقدسة ذات القيمة الدينية الكبيرة للشيعة الإثنى عشرية، وسأتناول اليوم محتوى المنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى الذى يُمكن الاستدلال عليه بتحليل رؤية برجينسكى الاستراتيجية أعـده برجينسكى مستشار الأمن القومى فى إدارة الرئيس كارتر، التى عرضها على الكونجرس فور توقيع معاهـدة السلام بين مصر وإسرائيل.

إذا يمكن إيجاز رؤية برجينسكى فى النص التالى «أما وقـد انتهت الحرب بين مصر وإسرائيل، فإن الاستقرار قد يسود منطقة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذى ينبغى مناهـضته حسبما تقتضى المصلحة الأمريكية العليا، التى تتطلب أن تسود المنطقة العـربية فوضى عارمة لا يدركها حكامها ولا تعـيها شعـوبها، حتى نتمكن من تفتيت دولها إلى كيانات صغـيـرة وإعادة ترسيم الحدود التى رسمها «مارك سايكس» البريطانى وجورج بيكو الفرنسى على أساس تركيبة الشعـوب «عـرقيا ودينيا وطائفيا» وهو ما سيكلف الولايات المتحدة تكاليف باهظة، ولذلك يتعـين عـلينا تعـظيم قدرات القوى غـير العـربية فى المنطقة، وتقسيم مناطق النفوذ عـليها فى مقابل تحمل هذه التكاليف» وقد كشف برجينسكى عن رؤياه عـندما كانت الحرب العـراقية الإيرانية ما زالت مستعـرة فى عام1980 عـندما صرح «بأن المعـضلة التى ستعانى منها الولايات المتحدة منذ الآن هى كيفية إشعال حرب خليجية ثانية على غرار الحرب العـراقية الإيرانية حتى يُمكن تصحيح حدود سايكس بيكو» فقامت الولايات المتحدة بالتخطيط لقيام حرب الخليج الثانية التى بدأت باقتحام العراق للكويت، فقامت هى بتعـبئة الرأى العام العالمى وحشدت تحالفا دوليا لم تشهده البشرية من قبل غـزت به العـراق، واحتلته تحت دعـوى تخليص العـراق من نظامه الشمولى المستبد الذى يدعم الإرهاب ويمتلك الرادع النووى، واستبداله بنظام ديمقراطى يدعم الحرية ويصون حقوق الإنسان، فأعـدمت القائد الطاغـية الذى يضطهد الشيعة وأتت بالمالكى ليعادى السنَة.

ولإحداث الفوضى العارمة وفقا لرؤية برجينسكى والتى عبرت عـنها كونداليزا رايس عام 2004 بالفوضى الخلاقة، تعـمدت الولايات المتحدة إغراق شعـوب المنطقة العـربية فى ثورات فوضوية دون قيادات تقود أحداثها وتسيطر على تفاعلاتها، ودون أن يكون لها رؤية واضحة لمشروع قومى تلتف حوله الشعـوب، وجرَت هذه الشعـوب إلى منزلقات التقاتل والتناحر والتباغض، وكان أسوأ ما فى الأمر هو أن هذه الثورات لم تتمكن واحدة منها حتى الآن من تقديم نخبة ثورية جاذبة قادرة على قيادة الدولة، وظل جميع من يُسمون أنفسهم نشطاء سياسيين، أو الذين سطوا على هذه الثورات، أو أولئك الذين تم تدريبهم فى الخارج عاجزين يطلبون العـون من الخارج وهو ما يُمثل الانجذاب الحقيقى نحو العمالة والتبعـية.

ولتفتيت الدول العربية وفقا لرؤيته فقد عهد برجينسكى لبيرنارد لويس هذه المهمة، حيث صرح لويس فى المقابلة التى أجرتها معـه وكالة الإعلام فى 20مايو 2005 «بأن العرب والمسلمين قوم مفسدون، وإذا تُركوا لأنفسهم فقد يفاجئوا العالم المتحضر بموجات إرهابية قد تقوض المجتمعات وتدمر الحضارات، ولذلك يجب على الولايات المتحدة والغـرب العمل على تدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعـية واحتلال بلادهم مرة أخرى، وينبغى الاستفادة من تجارب الدول الاستعـمارية لتجنُّب أخطائها، كما أنه يتعـين إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تكون هذه الشعـوب تحت سيطرتنا، وإما أن نتركها تُدمر حضاراتنا، وينبغى أن يكون الهدف المعـلـن لهذه العملية هو تدريب شعـوب المنطقة على ممارسة الديمقراطية،وللسيطرة على هذه الشعـوب يتعـيـن استثمار التناقضات العرقية والدينية، والعـصبيات القبلية والعـشائـريـة والطائفـية، والضغـط على القيادت التى سيتم تعـيينها لإجبار شعـوبها للتخلص من تلك المعـتقدات الداعـية إلى تدمير الحضارات الإنسانية.

والآن وبعـد توضيح رؤية برجينسكى الاستراتيجية وما صرح به بيرنارد لويس، هل يمكن القول إن مشروع تقسيم وإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، الذى جعـلت الولايات المتحدة حدوده ومكوناته تتطابق مع حدود ومكونات العالم الإسلامى قد بدأ فعلا فى كل من سوريا والعـراق؟ ذلك ما سأتناوله فى المقال المقبل بإذن الله.

استاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد