رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"قناع بلون السماء".. الكأس المقدسة والسجن لا سماء له (2)

رواية قناع بلون السماء
رواية قناع بلون السماء

تواصل الكاتبة السورية كنانة حاتم عيسي تقديم قراءتها النقدية لرواية “قناع بلون السماء” للكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية:

فلسفة التحديق والأنا بين الثيمة والموضوعة

ابتكر الكاتب بين فكر جيله المعاصر المحاصر السجين  و(الآخر)علاقة مرآتية قائمة على الفلسفة اللاكانية التي تربط وجود الأنا بوجود الآخر،حيث الآخر هو نقيض الذات وجزء لا يتجزأ من مفاهيم المرآة،والخروج من اللانص نحو فلسفة النص، يمارس الأدب هنا الفلسفة وينقلها لمستوى يتجاوز الظرف الزمني فيغدو متوالد المعنى ويعتاش على ولادات متكررة يفرزها الفهم المتغير لأبعاد الأطروحة،وهي القناع الذي يقف بيننا وبين الحقيقة،بينما نتشظى في ثيمات مألوفة قدمت بشكل مختلف لتتداول أدب المقاومة، الانتماء واللاانتماء والمقاومة كبؤرة للانكشاف والمواجهة بغرض رفض الهزيمة الداخلية وبغرض خلق الأثر وتقويضه وصنع الفارق في ارتطام المحتوى الثقافي لوعينا الجمعي بالقضية الفلسطينية:

كما ورد على لسان نور حرمانه من طفولته المتمثلة بالحياة الزقاقية بسبب غربته الداخلية وتغريبه الأسري، فنجد الفكرة اللاعتيادية لملامح الطفولة الفلسطينية الروتينية المؤلمة كما ورد في النص:

(التسكع في الأزقة، إلقاء الحجارة على قوات الاحتلال أثناء توغلها في المخيم ومهاجمته في مداهمات التفتيش والاعتقالات ما بين الفينة والأخرى)

 بينما اعتبر نور اكتشاف الهوية الاشكنازية (السكناجي) هي الولادة الجديدة،وهذه نظرة جديدة يراودنا فيها الكاتب بالتباس تهكمي واضح عن دوغمائيتنا المتوارثة.بينما يشكل عالم مغامرات أور شابيرا في القدس بكل احتمالاته من حواراته الجدلية مع ايالا في مجمع أولبرايت خلال حملة التنقيب نظرة لصيقة لأيديولوجية دولة الاحتلال القائمة على فلسفة المفارقات الصادمة وازدواجية المعايير، وكما ورد في النص ص 120:

بسبب ممارسات المحتل الدموية واللا إنسانية والانقسامات الداخلية المريرة النكبة لم تنتهي بعد،رحمها ما زال خصبًا وقادرًا على الإنجاب في كل لحظة، إنجاب القتل والتشريد والتطهير العرقي والأبعاد والتهجير والمصادرة والاقصاء والتهميش والتصنيف والالتباس والسلام المزيف.

 وسيسأل (نور) شخصيته المتقمصة ( أور) في إحدى صراعاته المرآتية المتمثلة في التحديق الوجودي رغبة في طرح القناع من خلال رفع الأسئلة المستحيلة والصعبة

 وكما ورد في النص  ص:107 

هل أنت صهيوني حقا أم يهودي فحسب؟! 

 وكما ورد كذلك في ص 118:

أي ازدواجية معايير أخلاقية هذه؟ تكونين مع حقوق المثلية الجنسية وفي الوقت نفسه ضد حقوق شعب بأكمله في الحياة والتحرر!! 

هوية الكاتب الثقافية وأيديولوجيته المنقسمة

استطاع الكاتب في روايته أن يدعو القارىء للولوج في عوالم مستحيلة ومحرمة،قاسمًا أيديولوجيته بين شخصية( نور الشهدي) وبين صديقه (مراد) وخالقًا علاقة ضدية مستفزة مع شخصية( أور شابيرا) المرآتية  المستفزة أخلاقيًا والتي تختزل محاولة نور للنجاة من براثن الاعتقال النفسي والوجودي ورغبته بالحياة كإنسان حقيقي.

فنجد نور عالم الآثار الوسيم (السكناجي ) ذو الملامح الإشكنازية التي ورثها عن أمه،الشاب المعدم، المعطوب بالطهر والخوف والفقر، والدأب ثم هوسه بالأناقة المستحبة  ك(لوثة) للقابع في السجن الكبير، الباحث عن حرية ذاته الساعية للأمل والنجاة في توقه المجدلي لتحقيق أحلامه المؤجله في  القدس، للخروج من زنزانة إسمنت المخيم لفضاء الحياة الكبير المجهول الرافض لقمع سلطة العسكر المتمثل بإسمنت المخيم في رام الله، المدينة التي يراها بلا رحم وقد قتلت روح أبيه المناضل القديم وحرمته من حياة متوقعة وأعدمت وجود زوجته خديجة  الشبحي،وغيرت نظرة المجتمع الصغير له لامبالاةً وتنمرًا، فدفعته للتحرر والانعتاق من أعباء صمت (مهدي المشهدي) وهزيمته الداخلية، ومكوثه الطويل وإقامته في حزنه في (مقبرة البيرة) وقرار هروبه النهائي لشخصية( أور شابيرا) بعد الموت الرمزي له على قبر( سمية) جدته وقبر (نورا )والدته الفاتنة الجميلة التي أورثته ملامح (أور)

.كما ورد في النص:

الخاطرة المجدلية على قبر الأم ص78،دلالة الشاعر في جسد الروائي. 

و ونجد علاقة الكاتب بالمدن  علاقة عشق صوفي مع( القدس) التي يشتاقها ويشتاق وجوده فيها بينما يجد صعوبة الانتماء لمدينة (رام الله) دلالة لرفض قمع السلطة المتغيرة بكل أشكالها وكما ورد في النص:

كيف لم يستطع أن يتقن رام الله بمخيمها وخيباتها وأحزانها وموت امه وموت ابيه المرحلي  ولأنها مسرح الانقسامات السياسية الداخلية المعروفة.،وشاهد كبير على فشل معاهدات فارغة في تحقيق العدل للقضية الفلسطينية مثل أوسلو وسواها.

بينما تتفرد شخصية (مراد )الغائبة والمخاطبة في بطاقات نور الصوتية على الدوام، هي شخصية المثقف  المناضل ذو الأفكار التعبوية المتجددة الصارمة والبراغماتية  ذو الذائقة النخبوية الخالصة التي نعرفها من نوعية الكتب التي يقرأها،هو المتغرب المعتقل، التنويري، المبدئي القابع في السجن الأصغر، المختبىء في الرسائل السرية و(التفاصيل الكولونيالية)، وصاحب دلالات الباطن الأيدولوجي لهوية الانتماء الفلسطينية الباحث عن حرية روحه المعذبة في زنزانة تضيق عليه بأنفاسه،والذي ينجو من خلال بحثه المعرفي رغبة بالتفوق على عقلية النظام الصهيوني والاستعلاء عليه بالتحصيل العلمي.

وكما ورد في النص ص23:

مراد الذي استغل درب آلامه الاعتقالية ليحيلها إلى درب معرفة وثقافة تؤدي للحرية.

قد نمر مرور الكرام على شخصية شخصية زوجة الأب (خديجة) وشخصية (شكيب القصابي) الوصولي وشخصية (أيالا) التي تمثل سردية الفكر الصهيوني الشرقي  المتطرف المبتذلة بتشدقها بمعاداة للسامية وتاريخ الهولوكست وما الى ذلك بينما لا تؤثر بنا شخصيات (نيكول) و(إيميلي) و(بريان) و(ناتان) الصهيوني الأصيل و( أوشرات) المستوطنة في( كيبوتس مجدو) وما سواهم من شخصيات ثانوية أّطرت العمل بمصداقية محببة وثمّنت التنوع الذي أغنى التجربة الروائية، ونزعت عليها الصفة الموضوعية بعيدًا عن المغالاة المتوقعة لفكرة نبل المقاومة وتعاليها. لتبهرنا شخصية (سماء اسماعيل)،الفتاة الفلسطينية الجميلة بوشم حيفا على ذراعها التي تمثّل ضًدا رمزيًا بشجاعتها واستقلاليتها وعلنية انتمائها، لتقمّص (نور) لشخصية (أور شابيرا ) بكل زيفها وشناعتها ووصوليتها وتنكرها لعقائديتها الدينية والوطنية.

 وكما ورد في النص:

هل الهولوكوست هي من جاءت بالصهاينة الى فلسطين؟! وهل دمجها كان عن سبق اصرار وتأسيس واستمرار منذ 1948 على أجساد شهداء قرية أبو شوشة؟ 

الذاكرة البصرية والتوثيقية لثقافة الأمكنة ودلالتها تاريخيًا وسياسيًا وفضح محاولات الكيان المحتل بتزوير التاريخ وطمس الهوية الفلسطينية

لقد قام الكاتب بتوثيق لصيق لخارطة جغرافية النضال ضد محاولات المحتل لمسح الهوية الثقافية للشعب الفسطيني من خلال السياحة التوراتية الملفقة والمشوهة للتاريخ الإنساني الضارب بالقدم، بجدوى  رغبة (نور الشهدي) بكتابة نسخة حقيقية عن المجدلية بعيدًا عن الاستشراق الذي رأه  مبالغة واستلابًا لتاريخ ولادة المسيحية ورموزها، كمصادر غنوصية غير موثوقة بين العهد القديم لأناجيل لوقا ومتى ويوحنا ومرقص، ومذهبيات اختلاف كنائس أوروبا وتناقضاتها،فيبدأ بزيارة الأماكن التي تحولت الى مستوطنات مشاركًا جمهور التلقي تاريخًا تراثيًا غنيًا  بالآثار الدالة على عراقة الوطن وغناه الثقافي والإنساني. فيذكر على سبيل المثال رمزية هذه الأماكن ودلالتها من خلال بطاقاته الصوتية الرادفة لعمله الروائي القادم والتي ينتهي معطمها برسائل ل صديقه الوحيد (مراد):

   ( العثور ع لفيفة جلدية في الموقع الآثاري لقرية مجدلة) يساعد في عملية كتابة الراوية الأخرى. 

الفكر اللاهوتي الغنوصي وسهل مجدو ومعركة هرمجدون))

(سجن النفحة جنوب صحراء النقب) رمزية اعتقال (مراد)

( في مقام مسك العطاررائحة عطرة تفوح من بئرٍ، شرق القرية بالقرب من تل مجدو) الذي غدا كيبوتس مجدو.

زيف الموقع التاريخي التوراتي (صرعة) عن الجبار شمشون وأبيه منوح، والذي يحوله (نور) في لحظة انهياره الأخلاقي أثناء عمله كدليل سياحي لمجموعة سياحية، إلى نسخته من الحقيقة خلال خطابه النكبوي الحاد عن (مقام سامت) ونكبة الشعب الفلسطيني وتهجيره وتشريده وكيف حول صندوق أرض أسرائيل 1991 الأرض المسلوبة للمهاجرين الجدد لينحتوا تماثيلًا وقطعًا فنيةً في هذه البرية.

ويعود ليوثق لنا التاريخ الإنساني لنشوء المسيحية والوجهات السياحية الغير معلنة والمنسية مثل: 

دير نافات الكاثوليكي والمحروس بتمثال كبير لمريم العذراء

في المسيحية الغربية

مدينة (نايين الجليلية) مدينة مريم المجدلية الخاطئة.

(بيت عينيا- العيزرية) (القدس)  موطن مريم أخت لعازر التي سكبت طيب الناردين على قدمي المسيح عليه السلام.

في المسيحية الشرقية (الأناجيل الإزائية-مرقس، لوقا، متى، يوحنا) و 

قصة مريم المجدلية وتأويل مفاهيم الخطيئة في المجتمع الجليلي والمقدسي ودلالتها بالخروج عن العرف أو العقيدة المسيحية تاريخيًا.

ونلاحظ من خلال تبدل هوية الأمكنة ودلالاتها الغنوصية، أن السارد المشارك لايديولوجية الكاتب يشير إلى:

(إشكالية العودة) كما ورد في النص ( العودة للد عاملًا وليس عائدًا

(إشكاليات ممارسات الاحتلال التعسفية الممنهجة) كما حدث ومايزال يحدث من ملابسات تخص (الحفر تحت  المسجد الأقصى)

 قضية إخلاء بيوت (حي الشيخ جراح) من قبل حكومة الاحتلال بمعنى رفض اليمين المتطرف لإخلاء بيوت حي ( شمعون هتصديق).

دلالات  الإنتماء والانتماء البديل ل (مدن برحم) و( مدن بلا رحم).

ذكر الأماكن ذات الدلالة التاريخية الأثرية  لفلسطين مثل:

قرية اللجون المهجرة في سهل تل جدو أو مدينة ميسيا نوبوليس التي غدت مستوطنة مجدو... والتي هي مرتع خياله المجدلي،الخليل (الأثرية)، أطلال كفر ناحوم، ونايين، المجدلة، الناصرة،كنيسة القيامة، حديقة القبر المقدس.

التزامن في لحظة تحول (نور الشهدي) (لأور شابيرا) هي لحظة اشتباك المقدسيين المحتجين على تدنيس الأقصى مع قوات الاحتلال فيغدون المثيرين للشغب والمخربين. ودلالة شارعي صلاح الدين والسلطان سليمان تاريخيًا ووطنيًا.

دلالة طريق الآلام، حمل القناع بدل الصليب دلالة رمزية لمعاناة( نور) مثل معاناة المسيح عليه السلام بسبب الأيديولوجية الرافضة ذاتها.

وتذكر أبواب القدس توثيقًيا أيضًا: 

باب الساهرة، باب العمود، مغارة الكتان، المشهورة بمغارة سليمان

معاناة الشيخ مرسي في فقدان بيته في حارة المغاربة(بمحركات توراتية) التي تحولت الى ساحة حائط البراق ثم حائط المبكى على هيكل سليمان ل نكسة 1967 ثم احتلال فلسطين.

مرتفعات جبال جلبوع القريبة من بيسان حيث يوجد (قبر يعود للعهد البرونزي الأخير) وُنصب زاوية المنفى ورواية الاحتلال الكاذبة عن معركة مشمار هعيمق المسماة بمعركة الاستقلال، بينما هي مقبرة لمذبحة  قرية أبو شوشة في عام 1948

دولة الفصل العنصري استعلائية على يهود الشرق، والمتمثلة باشكناز تل أبيب، اليهود الشرقيون، ذووالأصول العربية الذين دُربوا على الصهينة وتم تأهيل استيطانهم على البلدات والمدن الهامشية. 

ثم 

نظرة للقدس الصوفية ومرسي ابو العباس والسخرية من إرادة الكاتب /نور الشهدي لارتكاب الرواية المجدلية باستخدام مصطلح (ثناء العزم)

التأزم الداخلي لشخصية نور مشهدي وصراعه مع شخصية القناع الدائم خلال التحاقه بمعهد أولبرايت، ك أور شابيرا الإسرائيلي.

الخاتمة

في النهاية سنعترف أنَّ ما ابتكره الكاتب من معادلات موضوعية دالة في العنوان والخاتمة ليست فقط حكاية شاب فلسطيني محاصر يجد هوية زرقاء في معطف قديم في متجر لبيع الألبسة المستعملة ويتقمصها ليجد حياة مختلفة كليًا عن حياته الراهنة القاسية في حصار وقهر واستلاب، بل فيها أمل ضمني لسماء لن يستطيع أحد احتلالها، المقطعية المتناوبة بين المعرفة الغنوصية الرافدة لرواية( نور)  عن المجدلية،وبين مغامرات( أور شابيرا) بهويته الزرقاء البديلة إنما هي  أداة تسوق النص كامتدادٍ،  للاختلاف  بين الظاهر المعلن وبين الباطن المضمر، بين السارد الذي عاش التجربة في جسد (نور) وصراعه الداخلي مع (أور) وبين هوية الكاتب الثقافية وأيديولوجيته السياسية المتمثلة ب بغياب شخصية (مراد) ليكون عاملًا إضافيًا سيغير السردية السائدة في العالم  انحيازًا للشعب الفلسطيني المناضل الأبي.حين تغدو  مركبة (سماء اسماعيل) النافذة المشرعة نحو تلك السماء التي لاحدود ولا معابر فيها.