رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جار النبى الحلو: أحاديث الهواتف المتسربة من النوافذ ألهمتنى بـ«شجو الهديل»

جار النبى الحلو
جار النبى الحلو

بعد غياب امتد لثمانى سنوات منذ روايته «العجوزان» الصادرة فى عام ٢٠١٦، عاد الكاتب الكبير جار النبى الحلو برواية «شجو الهديل»، التى صدرت مطلع هذا العام عن دار «العين»، وهى الرواية القصيرة شديدة التكثيف والبراعة، فى الوصول إلى عمق الأحاسيس البشرية المختلفة، بمقاربات تميل إلى الشعرية وتنأى عن المباشرة والخطابية. 

فى حديثه مع «الدستور» يكشف «الحلو» عن أن غيابه الطويل لم يكن اختياريًا، فقد كان بسبب ظروف مرضية شديدة قادت إلى إجراء عدة عمليات جراحية، إلى أن بدأ فى كتابة رواية «شجو الهديل»، فاستغرقت منه عامًا واحدًا فقط. 

نتناقش مع جار النبى الحلو فى هذا الحديث، حول روايته الأحدث وعوالمها الإنسانية البسيطة، وما تمتد إليه من آفاق واقعية وفنية. 

شخصيات الرواية

يبين الحلو، فى حديثه مع «الدستور»، أن فكرة الرواية التمعت فى ذهنه من أحاديث بسيطة فى الهواتف، كانت تتداعى إلى أذنيه مصادفة عبر النوافذ والشرفات، وجعلته يفكر فى أن هذه الاتصالات الهاتفية، رغم عاديتها وتكرارها، تعبر عن حياة الناس وأفكارهم، عن هواجسهم وأشجانهم، ومن هنا بدأت الرواية. 

الاتصالات الهاتفية بالرواية، يمكن اعتبارها من العناصر الكاشفة عن شخصيات الرواية، القابعة فى عمارة مكونة من خمسة طوابق، فمن خلالها يعرف الرجل الفقير فتحى، الذى يسكن «منور العمارة»، شجون بعض الشخصيات، وتطلعات بعضها الآخر التى تخيب حينًا، وتتوحش حينًا آخر. 

هنا يبين «الحلو» أن شخصيات الرواية ليست بعيدة عن الواقع، فهذه الشخصيات موجودة بكل هذا الأسى والفجيعة وبكل هذه الأحلام المحبطة، وهى نتيجة لصراعات الواقع وتحدياته وليست منفصلة عنه، ولكنها تأتى بالرواية محملة على الأحلام الفنية وأجنحة الخيال، شأنها فى ذلك شأن أى عمل فنى. 

الاقتصاد فى اللغة

يعمد الحلو بروايته شديدة الرهافة على الاقتصاد فى اللغة والوصف، وهو ما يعتبره فى حديثه معنا «محاولة لأن أكون محايدًا تجاه الشخصيات، ولتكون الكتابة بعيدة عن الثرثرة والحكى المطول بلا فائدة»، فاهتمامه ينصب على الصورة التى اكتسب خبرة كبيرة بها بسبب كتابته السيناريو وحبه السينما، فالصورة برأيه أكثر قدرة على التعبير من الكلام الكثير والاستطراد والوصف الذى لن يضيف. 

ويوضح «الحلو» أن هذا المنحى جاء نتاجًا لتجاربه مع الكتابة، التى أوصلته إلى هذه الرؤية للعالم، والفهم لطبيعة اللغة والمعرفة بطبيعة الشخصيات، بحيث إن جملة أو موقفًا من الممكن أن يكشفا عن ملامح الشخصية، دون الحاجة إلى الكثير من الاستطراد. 

ثنائية الجمال والقبح

يبدو «شجو الهديل» وحزنه فى الرواية تعبيرًا قويًا عن شجن، أراد الكاتب التعبير عنه بتصويره عالمين متضادين، عالم قوامه البساطة والجمال ورقة المشاعر الإنسانية التى تتجسد فى هديل حمامتين تسكنان «المنور» مع فتحى؛ الشاب الفقير والبسيط الذى لا يطمع إلى ما هو أبعد من لحظته الآنية، وعالم آخر تحكمه الصراعات ومقادير الحياة التى تلقى بأفرادها نحو مصائرهم المؤلمة. يأتى هديل الحمامتين حزينًا ومغمومًا ربما فيما يُشبه الاعتراض الداخلى أو الرفض لانتصار القبح على الجمال. 

يعلق «الحلو» فى حديثه معنا بقوله: كيف يكون الشجو مع الهديل؟ هذا هو الموضوع، فطوال الوقت ثمة صراع مع الهديل والشخوص الطيبة التى كانت تنكسر، سواء بفقد الحب أو فقد الحياة أو فقد عزيز، وهو صراع هادئ إلى حد الموت. 

يشير «الحلو» إلى أن الشخصيات الطيبة بالرواية التى تواجه مصائرها البائسة باستسلام وحزن كاملين، تبين أنها فى حالة من محاولة الحياة لكنها حالة شبه بائسة، فثمة فتاة تحب شابًا ولكنه خائف من المسئولية، وأخرى عانس تحب كمال الذى يهرب ويتركها، وهناك من يصيبها المرض الخبيث فتموت.

فحين يتحول الهديل إلى شجو وغم، تتضح المأساة فى أن شخوص الرواية كلهم بشكل أو بآخر فى حالة من الشجن، وبعضهم فى حالة من المرض أو الرغبات المكبوتة أو الأحلام المنهكة، فهم يحبون الحياة لكنهم يفزعون منها، وهو ما يظهر فى كل هذا الفزع الذى يسببه الهديل لهم. 

شخصية تدخل فجأة إلى الرواية

فيما هو أقرب إلى «الميتافيكشن» تأتى شخصية فتاة تُدعى اعتماد، فهى تظهر بالرواية لتجلب حمامتين وعنزة إلى الشاب الفقير الساكن بالمنور، ثم تختفى، ويكسر الراوى العليم الإيهام حين يخبر القارئ بأنها دخلت فجأة إلى الرواية، تؤدى اعتماد دورها فى قلب إيقاع الحياة الرتيب بالمبنى رأسًا على عقب، لتصير الحمامتان والعنزة هى محور الانزعاج لدى البعض وموضع الأمل لدى آخرين. 

يبين الحلو أن شخصية اعتماد تعبر عن إيمانه بأن حياة البشر يمكن أن تتغير بلقاء أو اتصال عابر فى لحظة صغيرة فارقة وغير محسوبة، فاعتماد فى الرواية هى التى صنعت هذا الثقب الذى أدخلنا فى الرواية بشكل حقيقى، كما أن شخصية اعتماد بتعاطفها مع الفقير فتحى الذى يسكن فى هذا المنور تمثل حالة من الشجن، وهو متعاطف جدًا مع البسطاء والمقهورين، ويؤذيه عدم التحقق الإنسانى لشخص بسيط. 

أهمية الحكاية

يُظهر جار النبى الحلو بأعماله اهتمامًا كبيرًا بالحكاية، ويقول عنها فى حديثه معنا: لا أرى أهمية الحكاية فى الرواية فقط، فالحكاية هى التى صنعت الفن بشكل عام، حكايات ألف ليلة وليلة وحكايات جدتى وحكايات العوالم التى نعيشها فى الطفولة، وحكايات الفراق والفزع، ولكن المهم هو كيفية كتابة هذه الحكايات، فالحكاية كى تكون مؤثرة يجب أن تتمتع بجمال فنى فائق، وأن تكتب بشكل يعبر عن رؤية الكاتب وانحيازه واللغة التى يتحدث بها أبطاله، وأرجو أن أكون قد نجحت فى تحقيق هذه المعادلة الجمالية. 

تستدعى الرواية شخصية سعيد مهران؛ الشخصية الشهيرة التى كتبها محفوظ برواية «اللص والكلاب»، فعماد برواية «شجو الهديل» يقرأ أعمال نجيب محفوظ ويشغله كيف كان سعيد مهران يفشل فى كل مرة يحاول أن يتحقق فيها، هذا الاهتمام بالشخصية المحفوظية يشير إلى رغبة هذا الشاب فى تحسس طريقه وتأمل أفكاره المتضاربة. 

ويلفت الحلو إلى أنه يعتبر الرواية، رغم بساطتها الظاهرة، فى قلب مشكلات المجتمع بتعبيرها عن هموم هذه الشخصيات الحية، موضحًا أنه لا يحب الكتابة المباشرة، ولكنه بالمقابل يتابع تحركات الأبطال ويعيش معهم أحلامهم ويستمتع بالكتابة عما يشغلهم. ويستطرد: الكتابة هى أجمل ما حصلت عليه فى هذا الكون، وهى التى تعيننى على الحياة، فلم أتصور إطلاقًا أننى فى عمر ٧٧ سأكتب رواية وأنتهى منها، فحياة الكاتب فى أن يستطيع أن يمسك بالقلم ويكتب لأن روح الفن والكتابة تعطى للإنسان قدرة على الحياة.

صدر عن مكتبة «الأنجلو مصرية» كتاب «الجلد فى التحليل النفسى»، من تأليف الدكتور خورخى أولنيك، وترجمة الدكتور فؤاد الدواش. يدمج الكتاب بين التخصص النفسى التحليلى وتخصص الجلد وأمراضه، ويأتى فى ١٢ فصلًا تبدأ من الجلد فى كتابات فرويد، إلى «الأنا الجلدية» ووظائفها عند ديديه أنزيو، إلى منظّرين من أمريكا اللاتينية نظّروا عن الجلد وعلم النفس الجسدى، وهم منظّرون غير مطروق فكرهم فى البيئة العربية.