رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجديد الخطاب الأخلاقى

فى كلمته أمام إفطار الأسرة المصرية، طرح الرئيس السيسى المحاور الأربعة التى ستكون أساس العمل فى فترة قيادته الجديدة لمصر والمصريين، وكان ثالث هذه المحاور يدور حول «بناء الشخصية المصرية» بما ينطوى عليه من اهتمام بالتعليم والصحة والثقافة. والحقيقة أن هذا المحور وإن جاء فى الترتيب بعد محورى «الإصلاح السياسى» و«الإصلاح الاقتصادى» إلا أنه لا يقل عنهما أهمية، بل إن «إعادة بناء الشخصية المصرية» هى أساس إصلاح السياسة والاقتصاد، والحقيقة أن تحليل خطاب الرئيس منذ تصديه للقيادة يكشف عن إلمام كبير بعوامل النحر التى اعترت الشخصية المصرية خلال العقود الماضية. وبالتخريب الكبير الذى أحدثته الجماعات المتطرفة فى الوجدان والعقل المصريين، وبالدور التخريبى الذى لعبته الدراما والأعمال الفنية منذ السبعينيات «بفعل فاعل» من حيث تعميم النماذج الفاسدة، وتصديرها للشباب على أنها القدوة والمثل، والحقيقة أن غياب مؤسسات التعليم والتنشئة عن المجتمع المصرى، وتراجع الإيمان بقيم العمل، والكفاح، والأمانة، والتعامل بشرف، هو أحد أسباب التراجع الاقتصادى الحاد الذى تشهده مصر منذ نصف قرن أو يزيد. فكما يقول عالم الاجتماع الكبير «ماكس فيبر» فإن أى نهضة اقتصادية ترتبط بالأخلاق التى يؤمن بها الناس وبالأفكار التى يعتقدون فيها. وفى طرحه الفذ «الأخلاق البروتستانية» يربط فيبر بين الإصلاح الدينى فى أوروبا وبين نهضة الرأسمالية فى الغرب، لأن الإصلاح هناك أقنع الناس أن العمل هو الطريق لرضا الله وليس الإغراق فى الطقوس الدينية، وإن تعمير الدنيا هو غاية الله من خلق الإنسان الذى ليس عليه أن يكتفى بالحياة الآخرة فقط كما يحاول البعض أن يقنع المسلمين. يرصد فيبر أيضًا أن الإصلاح الدينى فى أوروبا الذى بدأ مبكرًا جدًا ركز على الطابع الأخلاقى للدين، وليس الطابع الطقوسى له. فالكذب، والخداع، والغش. والتهاون فى العمل كبائر تقود صاحبها إلى النار، وليس الزنا والسرقة فقط. يقول فيبر إن البروتستانت الذين هاجروا إلى أمريكا استغرقوا فى العمل ليل نهار لأنهم اقتنعوا أن العمل هو وسيلة الإنسان للتكفير عن خطيئة أبينا آدم الأولى واقتنعوا أن عليهم خلق الجنة على الأرض من خلال العمل. فى مصر يبدو الأمر فى حاجة للعمل الشاق لإعادة بناء الشخصية المصرية من هذه الزاوية وزوايا أخرى، فاغلب الناس يؤمنون بأن التدين مظهر لا جوهر، وطقوس تعبدية، لا روح أخلاقية. ومفهوم أغلب التجار للتجارة يخلط بينها وبين السرقة واللصوصية، وينحى قواعد الأخلاق لحساب المكسب السريع وغير المحدد بنسبة من رأس المال، والعامل لا يربط بين إتقان العمل وبين رضا الله إلا فيما ندر، وإذا كان يعمل فى الحكومة فهو يظن غالبًا أن المرتب حق له كمواطن بغض النظر عن أدائه العمل المكلف به أم لا، لذلك تظهر عبارة «فوت علينا بكرة»، وتحقق الشركات الصناعية العامة خسائر كبيرة. وما يضاعف من أزمة الشخصية المصرية هو غياب القدوة إلا فيما ندر، وتجسيد قطاعات كبيرة من النخبة المصرية لكل القيم السلبية التى يريد الرئيس تغييرها وتنخرط مؤسسات الدولة مؤخرًا فى تنفيذ هذا التغيير.. إننى أظن أن محور «بناء الشخصية المصرية» يستدعى مؤتمرًا عامًا يدعو له الرئيس المثقفين، والعلماء، والباحثين. ليدلى كل بدلوه، ويسهم كل بقدر ما يستطيع حتى يكون الناس شهداء على أنفسهم، ويشخصون مشاكلهم بأنفسهم.. بعدها نبحث عن الحلول وطرق العلاج.