رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصطفى البلكي يكتب: رحلة في خيال أنور عبد المغيث

مصطفى البلكي
مصطفى البلكي

أفضل ما يفعله الكاتب أن يقرأ التراث قراءة واعية، ثم يعيد تدوير ما وصله في صورة جيدة، يذهب في وجودها مع التخييل ويبتكر معها قصصا قادرة على الكشف عن معنى أكثر صدقا للحياة، وجودر من هذه النوعية، ولا بد من القول إن المفردات التي يتكون منها المشهد من ديكور وموسيقا وأزياء وحوار وحركة كاميرا، مفردات تجعل من الصورة صورة معبرة، تحتوي على مادة حية ناطقة، وهنا سوف أتحدث عن مفردة الكتابة عند القدير أنور عبد المغيث.

قال هيتشكوك: " التشويق لا يتعلق بإيقاف شخصين موجودين في مطعم وتفجير قنبلة تحت الطاولة، لكن التشويق هو أن يظهر لك تلك القنبلة تحت الطاولة ثم يظهر لك من هم حولها".

وهذه القاعدة تحققت حتى الآن في جودر، فالصراع ينمو ويكتسب عمقا من خلال القيام بمزج الواقع بالخيال، لتكون في حياة لا يمكن للمشاهد معها أن ينظر بعيدا عنها، وبسبب الحبكة تظل تلك الميزة قائمة، فهي متشابكة مع الحياة الحقيقة التي تدخل البعض في دوامة الصراع بين الخير والشر، وبين طرفين طرف يناضل وحيدا وطرف يسعي للاستحواذ على كل شيء، ليتم مزج الجميع في دائرة واحدة، الشيء الغريب فيها أنها تجمع بين الواقع بكل تعقيداته في الحارة العادية، والقصر الذي تدار فيها المكائد وتنسج فيه الرغبات وفي الأسواق، وفي الفضاء المتسع حيث الحياة تضع حكمها، وبين عالم آخر أشد غرابة فيه الخيال أهم شيء، ولو أنصفنا لقلنا إن هذا الجانب في ألف ليلة وليلة هو سر جمالها، وسر بقاء أثرها حتى الآن، ويمكن من خلاله الحركة في الآن بعين تعرف وتدرك ما نعيشه.

وتلك الخلطة الغريبة، التي نراها ونتابعها، لولا القلم الصادق، الذي لا يمكنه تزييف الأفكار، ولا يمكنه في الوقت نفسه خيانة طريقة تفكيره، وأنور عبد المغيث، كونه المتمرس في الكتابة الدرامية والإبداعية، لدية بداخله بئر خياله هو، وهذا البئر متخم بموروث، تم هضمه، وتقبله عن حب، وحينما أطلقه في الواقع، عزز العالم الثالث الذي أوجده، هذا العالم الذي حمله رؤية خاصة لا تفلت الواقع ولا المكائد التي تحاك لنا.

عين هناك وعين هنا.. ومن خلال الوقوف على أرض صلبة، خلق هذه التوليفة، المنسجمة والمتناغمة، حيث كل شخصية من الشخصيات، ترتدي لغتها، تتوافق مع وضعها، ومكانتها، ودرجة وعيها، وهو إذ يخلق هذا الجمال يقول لنا، ما زال هناك في الحكايات الكثير، ولأن الحقيقة دائما يحملها المتواري، متى ظهر وضح، أصبح المزيج، أو التوليفة، متحركة في اتجاه التشويق، هو ذاته اتجاه المعنى الذي يريده، وبذلك أصبح  لا شيء أبعد من الواقع في اتجاه الخيال، وفي حضور الأسطورة.

هذا المسار الذي أمسك بعين المشاهد من اللحظات الأولى لاقتسام ثروة الأب، وظهور الخلاف، والطمع والشر الكامن في الاخوة، ظهر في سياق معقد، سياق  يعول في المقام الأول على سرد الحكاية بهدوء، ودون لف أو دوران، ثم يعول على فكرة التحميل من خلال نظرة ساكنة في الواقع المعاش حيث الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وما يُرتب لهم في سياق واقع معقد، وبين هذا وذاك يظل الرمز وتفكييك الحكاية دلالة لا يُستغني عنها وسط المتعة والتشويق والابهار، فشواهي ابنة شمعة اليهودي وفريقها وبحثهم عن كنز لا يرتبط بهم هو رمز يعمل على تقوية الصراع، وجعل العقل في حالة حركة.

وإعادة تدوير الحكاية في عصرنا ليست المهمة السهلة، فتنظيم هذا العالم المتداخل بين عالمين عالم شهريار وقصره ورغبته والنساء من حوله، وعالم جودر المصري بكل مكوناته، يتطلب الوعي التام بمفردات كل شخصية، وكل حركة وكل لفتة، وهو يسمح لنفسه بمزج الخيال مع الواقع، وهو نهج الكتابة الإبداعية، وهو إذ ينمي جانب الخيال أو الجانب الغرائبي، يؤكد بأن الواقع المعاش يفوق الخيال ذاته.

اقرأ أيضًا..

جودر بن عمر المصري.. الخلطة الذهبية التي نالت محبة الجميع