رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نتنياهو أغرق بايدن فى مستنقع غزة! (1)

على مرّ المنعطفات التاريخية في القضية الفلسطينية نادرًا ما كانت الولايات المتحدة تجد نفسها عاجزة إلى هذا الحد في ممارسة نفوذها وتأثيرها، كما هو الحال عليه في حرب إسرائيل الراهنة على قطاع غزة.. لقد مضت خمسة عقود على حرب أكتوبر 1973، التي بدت فيها واشنطن بمثل هذا العجز؛ عندما أدى دعمها إسرائيلَ إلى فرض حظر نفطي عربي عليها.. واليوم، لا تواجه الولايات المتّحدة خطر التعرّض لحظر نفطي عربي آخر، لكنها قد تواجه ما هو أسوأ من ذلك.. فعلى الرغم من الإيحاءات التي يُرسلها المسئولون الأمريكيون بأنهم يمارسون ما يكفي من الضغط على إسرائيل لحملها على تجنّب استهداف المدنيين في غزة، واحترام قواعد القانون الدولي والإنساني في الحرب، فإنه لا يوجد على أرض الواقع ما يُمكن أن يدفعنا لتصديق ذلك.. لم يعد بالإمكان الآن تصوّر أنّ شرقًا أوسطَ أكثر استقرارًا سيواصل النمو.. بالإضافة إلى ذلك، تجد روسيا والصين في مأزِق الولايات المتحدة- في الموازنة بين دعم إسرائيل، وعدم الإضرار بمكانتها في الشرق الأوسط- فرصة لتعميق نفوذهما في المنطقة.. مع ذلك، يُمكن لهذه الحرب أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز الدور الحاسم الذي تلعبه الولايات المتحدة في المنطقة، إذا ما استطاعت النظر إلى ما هو أبعد من حسابات بنيامين نتنياهو في الحرب، الذي ورط فيها بلاده، وأغرق بايدن في مستنقع غزة.
في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي، أي بعد ثلاثة أسابيع من الهجوم الإسرائيلي على غزة، أخبر كبار مسئولي الرئيس الأمريكي، جو بايدن، المقربين، مجموعة صغيرة مجتمعة في البيت الأبيض، ما لن يقولوه علنًا: كانت إسرائيل تقصف مباني القطاع بانتظام، دون معلومات استخباراتية قوية بأنها أهداف عسكرية مشروعة.. وناقشت هذه المجموعة- المؤلفة من كبار مسئولي السياسة الخارجية في إدارة بايدن والمسئولين السابقين- الافتقار الواضح إلى خطة إسرائيلية لهزيمة حماس، "لم يكن لدينا أبدًا شعور واضح بأن الإسرائيليين لديهم هدف عسكري محدد وقابل للتحقيق.. منذ البداية، كان هناك شعور بأننا لا نعرف كيف سيفعل الإسرائيليون ما قالوا إنهم سيفعلونه".. ومع ذلك، كانت إدارة بايدن تقدم لإسرائيل دعمًا غير مُقيد في العلن، في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر، وفي نفس اليوم الذي عُقِد فيه الاجتماع الخاص، قال المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، للصحفيين، إن الولايات المتحدة لا تفرض "خطوطًا حمراء" على الحملة العسكرية الإسرائيلية.
ويُظهر الاجتماع- الذي لم يتم الإعلان عنه سابقًا- أن التناقضات كانت تظهر في وقت أبكر بكثير مما هو معروف علنًا، بين الشكوك الداخلية لفريق بايدن حول سلوك إسرائيل، ودعمها الخارجي الصلب.. في كل منعطف تقريبًا، دافع الرئيس بايدن ومساعدوه عن الدولة اليهودية، حتى عندما تحدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة في كل شيء، من ضرورة حماية المدنيين، إلى السماح بدخول المساعدات الإنسانية، إلى قبول دولة فلسطينية، في وقت نفت فيه السفارة الإسرائيلية في واشنطن أن الجيش الإسرائيلي ضرب أهدافًا بمعلومات استخباراتية غير كافية، قائلة إن الجيش الإسرائيلي ملتزم بـ"القانون الدولي" و"يطبق عملية قانونية شاملة في اختيار الأهداف، ويستثمر موارد كبيرة لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين"!!.
في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، تناول- من خلال مقابلات مع عشرين مسئولًا في الإدارة الأمريكية ومستشارين خارجيين- الإجابة عن هذا السؤال المهم: كيف وجد بايدن، بعد أكثر من خمسة أشهر من هجمات السابع من أكتوبر، نفسه متورطًا بعمق في حرب لا يريدها، وتُهدد بأن تصبح عنصرًا مُهددًا في فترة ولايته؟.
بداية، لا بد من التأكيد على أن حلفاءه يعترفون سرًا بأن ذلك ألحق به ضررًا كبيرًا، محليًا وعالميًا، ويمكن أن يصبح بسهولة أكبر كارثة في سياسته الخارجية.. كيف؟.
استندت استراتيجية بايدن منذ البداية إلى مقايضة مركزية: إنه إذا أظهر دعمًا لا لبس فيه لإسرائيل، وحتى متحديًا، في وقت مبكر، فقد يؤثر ذلك في النهاية على إدارتها للحرب.. ويعترف بعض مسئولي إدارة بايدن الآن بأن الاستراتيجية تتجه نحو الفشل، وفي المحادثات الخاصة يُعبرون عن إحباط شديد وعدم يقين بشأن كيفية انتهاء الحرب، لدرجة أنه بدا أن إحباط بايدن قد بلغ ذروته، حيث أخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مكالمة هاتفية، بأنه سيكون من الكارثي أن تدخل إسرائيل إلى رفح، وطالب إسرائيل بإرسال فريق إلى واشنطن للتشاور حول استراتيجية أفضل، حسبما قال مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، للصحفيين.. ويصر مسئولو بايدن على القول بأنهم أثروا على إسرائيل في لحظات حاسمة.. يقولون إنهم أقنعوا إسرائيل بخفض عدد القوات في غزة، والسماح بدخول كمية محدودة من المساعدات، والامتناع عن مهاجمة حزب الله في لبنان.. وأشاروا إلى أن متوسط عدد القتلى اليومي في غزة قد انخفض إلى أقل من مائة في الأسابيع الأخيرة، حتى في حين يقولون إنه لا يزال مرتفعًا بشكل غير مقبول.. ويقول خبراء إن هذه الحرب من بين أكثر الحروب دموية وتدميرًا في التاريخ الحديث.
بايدن، الذي كان ينتقد إسرائيل بشكل أكثر حدة في الأسابيع الأخيرة، يواجه الآن لحظة حاسمة محتملة، بعدما أعلن نتنياهو عن نيته اجتياح مدينة رفح جنوب غزة، حيث يلجأ نحو مليون ونصف المليون فلسطيني نازح، وهي خطوة قال كيربي إنها ستكون (كارثة)، وقال بايدن لشبكة "إم.إس.إن.بي.سي" إنها ستتجاوز "خطًا أحمر" إذا لم تتبنَ إسرائيل خطة ذات مصداقية لحماية المدنيين.. ومع ذلك، أشارت إسرائيل إلى تصميمها على المضي قدمًا في طريقها نحو رفح.. هنا يُعلق السيناتور، كريس فان هولين، الذي قال إنه وافق على قرار بايدن بالسفر إلى إسرائيل مباشرة بعد هجمات السابع من أكتوبر لإظهار الدعم الأمريكي لتل أبيب، لكن في هذه المرحلة فإن قدرة نتنياهو على صد الولايات المتحدة مع الإفلات من العقاب جعلت أمريكا تبدو ضعيفة، "لقد دعمت قرار الرئيس بالذهاب إلى إسرائيل، في تلك اللحظة من الصدمة، لإعلام الشعب الإسرائيلي بأن الولايات المتحدة تقف معهم.. لكن الاستراتيجية التي تجاوزت ذلك، والتي كانت هذا الخداع الخاص المستمر لنتنياهو، لم تسفر عن نتائج ذات مغزى سوى عدد قليل جدًا.. كانت هناك بعض التغييرات التدريجية، لكن الفجوة بين ما دعا الرئيس حكومة نتنياهو إلى القيام به وما قدمته بالفعل هائلة.. إنها هوة".. وقال فان هولين إنه إذا تحرك نتنياهو بشأن رفح دون عواقب فإن الولايات المتحدة ستبدو "عاجزة"، وأضاف: "من الجيد أن نرى تعليقات الرئيس الأكثر صرامة.. لكن السؤال سيكون ما إذا كان الرئيس يستخدم النفوذ الذي لديه للمطالبة بالمساءلة وفرض طلباته".
علق بايدن، الذي لديه ارتباط طويل الأمد وعميق بإسرائيل، على هجمات حماس بعاطفة غير عادية. وأشار إلى أن السابع من أكتوبر كان أكثر الأيام دموية بالنسبة لليهود منذ المحرقة، وأيد جهارًا حق إسرائيل في اتخاذ إجراءات صارمة لتدمير حماس.. ومع ذلك، حتى في تلك الأيام الأولى، حث الإسرائيليين على ضبط النفس.. وكتب بايدن ومساعدوه- الذين سافروا إلى تل أبيب منتصف أكتوبر- خطابًا على متن الطائرة الرئاسية، سعيًا لتحقيق التوازن بين التعاطف والتحذيرات من الانتقام الأعمى.. وحذر بايدن قائلًا: "بينما تشعر بهذا الغضب، لا تستهلكه.. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كنا غاضبين في الولايات المتحدة.. وبينما سعينا لتحقيق العدالة، ارتكبنا أخطاء أيضًا".. لكن نتنياهو، في نظر نشطاء حقوق الإنسان والعديد من القادة الأجانب، أظهر القليل من ضبط النفس.. وقد أدى القصف الإسرائيلي الكاسح لغزة، إلى جانب القيود الحادة التي تفرضها على المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع، إلى ظروف كارثية.. وأسفرت الضربات العسكرية عن مقتل أكثر من 31 ألف فلسطيني، في القطاع الذي يبلغ عدد سكانه 2.3 مليون نسمة.. وفي الوقت نفسه، تقول الأمم المتحدة إن الأطفال بدأوا يموتون من الجوع وسط خطر حدوث مجاعة شديدة.
ظل بايدن ومساعدوه يعلنون دعمهم الثابت لتل أبيب، لكن الديمقراطيين الآخرين بدأوا يزدادون انزعاجًا مع تكشف حقائق القصف الهمجي على القطاع.. وفي اليوم الذي قال فيه كيربي إنه لا توجد خطوط حمراء لإسرائيل، أرسل فان هولين رسالة نصية إلى مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، وصف فيها تعليق كيربي بأنه "شائن".. ويعترف مسئولو البيت الأبيض بأنهم كانوا يحثون إسرائيل، مرارًا وتكرارًا، على كبح جماح هجومها. ولكن عندما لم تسفر تلك المحادثات عن نتيجة تُذكر، لم يقدم المسئولون الأمريكيون سوى القليل من التوبيخ العلني، ولم تكن هناك عواقب واضحة.. ومع مرور الأسابيع، بدا أن حسابات إسرائيل والولايات المتحدة تتباعد. 
في أوائل نوفمبر الماضي، قصفت إسرائيل مخيم جباليا للاجئين المكتظ بالسكان عدة مرات، قائلة إنها قضت على إبراهيم بياري، أحد كبار قادة حماس، لكن عشرات المدنيين قتلوا أيضًا.. "كانت تلك هي المرة الأولى التي يركز فيها الجميع على حجم القنابل التي كانت إسرائيل تسقطها ومدى قلة اهتمامهم بنتائج تدميرها"، قالها أحد حلفاء البيت الأبيض.. ترفض إسرائيل وحلفاؤها فكرة أنهم لا يهتمون بالأبرياء.. قتل المدنيين في جباليا كان "نتيجة مأساوية غير مقصودة لدمج حماس المنهجي للبنية التحتية الإرهابية بين السكان المدنيين"، هكذا قالت السفارة الإسرائيلية في بيان، مضيفة، إن "المبنى الذي أُصيب في الغارة انهار إلى حد كبير، بسبب شبكة أنفاق حماس الإرهابية التي بنيت تحتها، والتي أدت أيضًا إلى انهيار عدة مبان أخرى في المنطقة المجاورة، ومقتل إبراهيم بياري ومرءوسيه الإرهابيين، فضلًا عن بعض الضحايا المدنيين"!!.
لكن سلوك إسرائيل لحملتها العسكرية أثار شكوكًا متزايدة في الولايات المتحدة.. في أوائل نوفمبر، بدأت إسرائيل تحذر من أن مستشفى الشفاء، أكبر مستشفى في غزة، حيث يحتمي آلاف المدنيين، تستخدمه حماس كمركز قيادة رئيسي.. وأثار ذلك نقاشًا حادًا بين مسئولي بايدن حول ما إذا كان ينبغي دعم ادعاء إسرائيل علنًا، وفقًا لثلاثة مسئولين كبار في الإدارة تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم.. وشعر البعض بالقلق من أن إسرائيل ستعتبر مثل هذا التصريح بمثابة ضوء أخضر لمداهمة المستشفى، بينما أراد آخرون استخدام المعلومات ليظهروا للجمهور كيف اندمجت حماس بين المدنيين للتأكيد على التعقيدات التي تواجهها إسرائيل.. وللحديث بقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.