رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن 13.. التكفير ابن شرعى لتغييب مقاصد الحوار فى القرآن

جريدة الدستور

 

 

بدأنا فى حديثنا السابق مع الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، حوارًا حول «الحوار فى القرآن»، وتوقفنا عندما توقف البشر عن الحوار وعن محاولة الإقناع بالحجة، فأصبحنا نواجه الاتهامات بالتكفير، وهى التهمة التى طاردت كثيرًا من المفكرين بداية من طه حسين وحتى نصر حامد أبوزيد، فكلما قال أحدهم قولًا مخالفًا سعوا فى قتله ماديًا أو معنويًا. 

■ الباز: أريد أن أتوقف معك يا دكتور عند التكفير، كيف ترى هذه القضية فى ضوء طرقنا أبوابًا جديدة ونحن نبحث عن تفسير جديد للقرآن؟ 

- أبوعاصى: قبل أن ندخل إلى قضية التكفير، لا بد أن نسأل: لماذا وصل الناس إلى القتل؟ لقد قلنا قبل ذلك إن الحقيقة فى ذاتها مطلقة، لكن عندما تلبس بها الإنسان صارت زمنية، وصار الفهم مختلفًا، فأنا حتى أقتلك أو أكفرك إذًا أنا اعتقدت أنى صاحب الحقيقة وحدى، وأن فهمى أنا فقط هو الصواب، وما دام فهمى وحدى هو الحق، فكل الفهوم الأخرى باطلة.

هذا تحديدًا هو منبع التكفير، وكل التكفيريين يتصورون أنهم على الحق، وأنهم وحدهم من سينجون يوم القيامة، فهم وحدهم المتمسكون بالدين، ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك رأيًا آخر، ويغيب عنهم أن هناك دائمًا رأيًا آخر وهناك قناعات أخرى. 

ونحن لو تعلمنا الحوار فى القرآن، وأن الله حاور إبليس والملائكة، وأن النبى حاور أهل الكتاب، وأنه قال لهم «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا....»، ماذا قال؟ هل قال: اقتلوهم؟ لا، بل قال «فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون». 

تأسيسًا على ذلك، فإن منهج التكفير ومنهج التكفيريين مخالف تمامًا لمنهج القرآن. 

وإذا فرضت جدلًا أن نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا» يتبع فلسفة مادية ملحدة، وأن طه حسين تكلم من أرضية استشراقية ضد القرآن، وأن فرج فودة طعن فى الشريعة الإسلامية، وأن نصر أبوزيد طعن فى القرآن، لو فرضنا أن كل هذا حدث، فما المنهج الذى أمرنى به الإسلام؟ 

المنهج القرآنى هو الحوار، فإذا كان النبى قد حاور المشركين «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين»، فأنت لا تملك إلا الحوار مع المخالف، وأنت حتى لا تملك الهداية، لأنها بيد الله وحده، وعليه فأنت لا تملك إلا الحوار، ويجب ألا ينتقل الحوار من الجدل المباح إلى رفع السلاح والتكفير، لأن التكفير طريق نهايته التفجير. 

■ الباز: هذه طبيعة الأشياء، فأنت تكفر ثم يأتى بعد ذلك من يستخدم حجتك فى التكفير للقتل وإباحة الدماء. 

- أبوعاصى: أذكر أنى قرأت كتابًا للدكتور ناجح إبراهيم، كان يقول فيه إنه كان يتحاور مع واحد من أفراد الجماعات الإسلامية يكفر الناس، وأنه وضع أمامه ورقة وقلمًا وطلب منه أن يكتب فيها من هم المسلمون من وجهة نظره، فكتب اسمه واسم أميره وأسماء جماعته فقط. 

لقد فعل هذا الشاب هذا لأنه يعتقد أنه وحده من يمتلك الحقيقة، وكذلك فعل مثله الإخوان وكل الجماعات المتطرفة، لقد أعلنوا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنهم ملاك الحقيقة، ولذلك فهو يرى أن سجنه فى سبيل الله، وعندهم أن من لا يدخل السجن يكون إيمانه فيه كلامًا، فالسجن يمنحهم مرتبة عند الله ويمنحهم رفعة، والذين قتلوا فرج فودة كانوا يهتفون الله أكبر، لأنهم يعتقدون أنهم على الحق بينما كان فودة على باطل، رغم أن سفك الدماء من أعظم الجرائم عند الله. 

أنت مع فرج فودة أو مع غيره لا تملك إلا الحوار فقط، هذا ما أراده الله ورسخه فى أذهان الناس، لقد خلقنا الله وقال لنا أنتم عقولكم وبيئاتكم ومعتقداتكم وثقافاتكم مختلفة، لأن الاختلاف سنة، و«لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك».. و«لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، وأسباب الاختلاف كثيرة لغوية وفكرية وثقافية، ومن تجربتى وقد جلست مع الدكتور حسن حنفى عندما تتحدث مع هؤلاء المفكرين ستجد أنهم يتحدثون باجتهادهم وليس من أجل الطعن فى الدين. 

■ الباز: ليس لديهم مخطط لهدم الدين كما يقولون عنهم بالطبع. 

- أبوعاصى: سأقول شيئًا وأتمنى أن يفهمه الناس، فهناك فرق بين الإيمان والبحث العلمى، لا يوجد تلازم بينهما، فأنا رجل مؤمن مائة بالمائة بالقرآن الكريم، لكن عندما أقرأ ما يتحدثون به عن الإعجاز العلمى فى القرآن أجد لدىّ اعتراضات ذهنية، فألجأ إلى البحث العلمى حتى أصل إلى نتيجة، وهذا شىء والإيمان شىء آخر، وعليه فإن نصر أبوزيد أعلن أكثر من مرة أنه مؤمن بالله، لكن بحثه العلمى هذا شىء آخر. 

■ الباز: بمناسبة ما تقوله حضرتك عن الدكتور نصر حامد أبوزيد، أفصحت زوجته بعد وفاته عن بعض أسراره، قالت إنه كان يصلى بها إمامًا فى رمضان كانت تستمع منه وهو يتلو القرآن وكانت تأنس لصوته، يعنى مسألة أن تكون مؤمنًا أو غير مؤمن، فهذا لا علاقة له بأدائك فى البحث العلمى.

- أبوعاصى: البحث العلمى يقوم على أن تكون موضوعيًا، فأنت تبحث فى قضية ووجدت بعض الأسئلة التى لا بد من طرحها، هل عندما تفعل ذلك يقولون إنك كافر، هذا ليس صحيحًا، فما يحدث مجرد بحث فقط. 

■ الباز: الأسئلة التى يطرحها الباحث حول آيات بعينها لا تمنعه من أن يصلى ويتعبد إلى الله بها. 

- أبوعاصى: أنت فى النهاية مسلم ومؤمن بالله، وعندما أثير الجدل قديمًا حول الدكتور زكى نجيب محمود فى مسألة الوضعية المنطقية، هذا بحث علمى ولا ينفى عن الرجل أنه مؤمن، كان يتحدث عن القرآن بإجلال شديد، وكذلك الدكتور نصر أبوزيد فقد سمعته فى قناة الجزيرة فى حواره مع الدكتور محمد عمارة يقول أنا مؤمن بالقرآن، وعندما يسألنى أحدهم فأقول له أنا مسلم ومؤمن بالله، فيقوم بتكفيرى، وهذا يكفى جدًا، فيجب ألا يصادر أحد على ما يقوله الناس عن إسلامهم أو إيمانهم، ولذلك العلماء عندهم قواعد يأخذونها من النصوص، يقولون لك لا ترمِ المسلم بكفر ولا بظلم ولا بفسق ما لم يكن لديك دليل، لا تفعل ذلك حتى لو كان مخطئًا. 

■ الباز: المشكلة أن هناك من يتم تكفيره بسبب اجتهاده أو إتيانه برأى جديد، وهذا لا يمثل دليلًا على شىء، ومع ذلك يتم تكفير المجتهدين. 

- أبوعاصى: الإمام الشاطبى كان يقول إنه من ضمن ما يدخل تحت مرتبة عفو الله يوم القيامة عثرات المجتهدين، فالمجتهد يخطئ ومع ذلك ربنا يدخله الجنة ويعفو عنه، فقد وصل به فكره إلى ما انتهى إليه، فيجب ألا تحول هذا الفكر إلى كفر. 

■ الباز: هذه القاعدة تجعلنى أسألك: لماذا هناك دائمًا خوف من الاجتهاد، فعندما يطرح أحدهم رأيًا فى مسألة علمية تجد من يقول إنه يريد أن يهدم الدين، فهل الاجتهاد حتى لو كان خطأ يمكن أن يهدم الدين؟ 

- أبوعاصى: لا أخشى على الدين من الاجتهاد، بل أخشى عليه من عدم الاجتهاد، ولو كان الإسلام يخشى الاجتهاد ما فتح بابه من الأساس، ثم إن الإنسان بنص القرآن يخطئ، الصحابة اجتهدوا واختلفوا، فابن عباس على سبيل المثال خالف الصحابة كلهم فى مسائل فى المواريث، وسيدنا على خالف فى مسائل فى المواريث وهى مسائل موجودة ومعلومة اختلف فيها الصحابة، وظل ابن عباس عند رأيه حتى مات، وظل يتحدى الجميع بما عنده وقال إنه لن يتنازل عنه، ولم يكفره أحد. 

ظلت الاجتهادات على هذه الصورة حتى جاء التيار السلفى الذى يرفع شعار «كتاب وسنة بفهم سلف الأمة»، وهو ما أغلق الباب أمام الاجتهاد، وكما قلت عندما تأتى لتتحدث يقولون لك وهل أنت أعلم من الطبرى والقرطبى، تقول لهم هناك قضايا فقهية جدت لم تكن فى زمن هؤلاء، يقولون لك أنت: تريد أن تهدم الدين، فترسخ عند الناس بسبب ذلك أن أى اجتهاد يمكن أن يضر الدين، وما حدث أننا فتحنا الاجتهاد نظريًا وأغلقناه عمليًا، وإذا جربت وجئت برأى مختلف ينالك الأذى. 

■ الباز: ينالك الأذى من المؤسسة التى ينتمى إليها الباحث أم من الشارع؟ 

- أبوعاصى: يأتى الأذى من مؤسسات المفروض أنها تقوم على البحث العلمى، وقد سأل العقاد فى كتابه «التفكير فريضة إسلامية» عما يمنع العقل من التفكير، وأجاب بأنه الإرهاب من السلطة والإرهاب من المجتمع، والمؤسسة هى التى تمنعك من التفكير، وإذا فكرت تجد الناس يقومون عليك، ولذلك تجد كثيرًا من المجتهدين يؤثرون السلامة فلا يتحدثون. 

وفى أصول الفقه لدينا إجماع قولى وإجماع سكوتى، القولى نعرفه، أما السكوتى فهو إجماع لرفض شىء بالصمت، وهناك من يطعن فيه ويقول إنه ليس دليلًا على شىء، دون أن يلتفت من يقول ذلك إلى أنهم صمتوا لأنهم يخافون، وحتى فى الرسائل العلمية مثلًا تجد الباحث يتقيد بالمؤسسة وبآراء أساتذته لا يخرج عنها أبدًا، حتى لو كان له رأى مختلف فيها. 

■ الباز: لا يحاول أن يجتهد بالطبع حتى لا يعصف به أو يتم تعطيله. 

- أبوعاصى: ولذلك لا بد من الاهتمام بأن يكون فى الرسائل والأبحاث العلمية جديد، ليس معقولًا أن تكون مجرد إنتاج للسابق فقط. 

■ الباز: هناك قضية خطيرة على هامش حديثنا عن التكفير، فمن يكفر أحدًا يقول لك إنه ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، كيف ترى هذه القضية؟ 

- أبوعاصى: الكلام صحيح لكن تطبيقه خطأ، ولا بد أن نسأل ما المعلوم من الدين بالضرورة؟ يقول العلماء هو الذى يعلمه الخاصة والعامة على سواء، يعنى لا أحد ينكره أو لا يعرفه، يعنى لو سألت مسلمًا عن الزنا سيقول لك حرامًا، عن القتل سيقول حرامًا، عن شرب الخمر سيقول لك حرامًا، عن ترك الصلاة سيقول لك حرامًا، هذا معلوم من الدين بالضرورة. 

لكن عندما أبحث فى قضية فيها الرأى والرأى الآخر، فهذا لا شىء فيه معلوم من الدين بالضرورة، حتى إن العلماء يقولون إن الأمور البديهية الخفية تحتاج إلى تنبيه، والأمور النظرية تحتاج لدليل نظرى استدلالى، وعليها فهى أمور ليست محسومة. المعلوم من الدين بالضرورة مثل الشمس تمامًا لا يختلف عليها اثنان، فالمقولة صحيحة ولكن تطبيقها هو المشكلة، والحجة ليست بالقاعدة، لكن الحجة دائمًا فى تطبيقها. 

■ الباز: اسمح لى أن آخذك إلى قضية مهمة، أنا أطلق عليها التكفير الخفى، بمعنى أن هذه الجماعات وبعض الدعاة يقولون لنا نحن لا نكفر أحدًا، وهاتوا لنا دليلًا واحدًا على أننا نفعل ذلك، لكن عندما تقرأ كتاباتهم تجدها زاخرة بالتكفير، يستخدمون عبارات فيها لف ودوران لكن المقصد منها فى النهاية واضح... كيف تنظر إلى هذه الحالة؟ 

- أبوعاصى: هذا صحيح، فأنت تجد أن من يفعلون ذلك يقولون إننا لا نكفر، ويقولون أحيانًا «نحن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله»، هذا كلام، لكن هناك كلام آخر يقولونه عندما يستخرجون عبارات وردت فى مقال أو فى كتاب، فعندما اتهموا نصر أبوزيد بأنه قال إن القرآن منتج بشرى أى ليس إلهيًا، فهم بذلك كفروه حتى لو لم يقولوا عنه إنه كافر. 

■ الباز: فعلها الدكتور محمد عمارة تحديدًا عندما انتقد نصر حامد أبوزيد فى كتابه «التفسير الماركسى للإسلام»، والبداية من العنوان نفسه فهو يحمل إدانة... كيف ترى ذلك؟ 

- أبوعاصى: أنا قرأت هذا الكتاب أكثر من مرة، واستوقفنى العنوان، وتساءلت عن مقصده بالتفسير الماركسى للإسلام، وهل الإسلام يقبل هذا التفسير؟ فالعنوان لم يكن مستساغًا أبدًا، ثم هل الإسلام يحتمل تفسيرًا ماركسيًا؟ وإذا كان يحتمل فأنت إذن تكفر به، قد يقول أحدهم بذلك. 

■ الباز: قد يكون الدكتور عمارة عمد إلى اتخاذ الماركسية كمدخل نظرى للرد على الدكتور نصر أبوزيد بغرض إظهار ما يبرر معارضته. 

- أبوعاصى: قد يكون ما تقوله مقبولًا، لكن فى هذه الحالة يظل الأمر مطروحًا للنقاش، لا تكفرنى ولا تدفعنى إلى الوقوف أمام المحاكم، ولا تفرق بينى وبين زوجتى. 

■ الباز: ما أخرج به من حديثنا أن مقاصد الحوار فى القرآن غابت تمامًا، وهو ما أسهم فى انتشار ظاهرة التكفير، فعندما لا تقبل طرحًا من آخر ولا رأيًا من مختلف معك ولا فكرة يطرحها من لا يتفق معك، فأنت بدلًا من محاورته تسارع إلى نفيه وتكفيره... وهذا شىء لم يقل به القرآن أبدًا.