رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغز جمال الدين الأفغانى «٢- ٢»

الألغاز فى حياة «السيد» جمال الدين الأفغانى كثيرة، ولقد حاولنا فى المقال السابق الإشارة إلى لغز نسبه «الإيرانى» «الأفغانى»، وكذلك لغز مذهبه «الدينى» «الشيعى» «السُنى»، واليوم سنحاول تناول مسألة انتمائه إلى المحافل الماسونية. ولا يعنى ذلك أن الألغاز فى سيرة الأفغانى تقف عند هذه الأمور فحسب، بل أن اللغز الأكبر هو تنقله الدائم، وفى ظروف التقلبات السياسية، وطرق المواصلات التقليدية إلى حد كبير، فى عالم النصف الثانى من القرن التاسع عشر؛ حيث تنقل الأفغانى بين وسط آسيا، والمشرق العربى، وإسطنبول، ومصر، وأوروبا، فضلًا عن علاقاته بالحكام فى إيران والدولة العثمانية ومصر، وثورته أو «انقلابه» عليهم، هذا إلى جانب علاقاته بالقوى الأوروبية، بحيث أصبح الأفغانى بحق الثائر «الجوال» فى العالم الإسلامى.

على أى حال لا نسعى من وراء حديثنا ذلك إلى توجيه أى إدانة، ولا حتى مدح، للأفغانى، إنما نحاول إلقاء الضوء على جوانب غامضة فى سيرة شخصية تاريخية عظيمة الأثر أينما حلت. نعود من جديد إلى مسألة انتماء «السيد» جمال الدين «الأفغانى» إلى المحافل الماسونية، وسيكون كلامنا عن المحافل الماسونية فى مصر. هناك من ينفى انتماء الأفغانى للماسونية، فى إطار الدفاع عن انتمائه الإسلامى، وهناك من يؤكد على انتمائه إليها، مؤكدًا على «هرطقته» وبُعده عن الإسلام، بل يزايد أصحاب هذا الاتجاه على الأفغانى بجهره بشرب الدخان فى المقهى، بل الطعن أحيانًا فى عقيدة الأفغانى.

ويؤكد أحمد أمين فى كتابه المهم «زعماء الإصلاح فى العصر الحديث» الصادر عام ١٩٤٨، على الانتماء الماسونى للأفغانى؛ إذ يذكر أن الأفغانى عندما وصل إلى مصر انتمى إلى المحفل الماسونى «الاسكتلندى» فى مصر. ويرى أمين أن الأفغانى دخل إلى هذا المحفل: «لأنه يضم طائفة من عِلية القوم، لعله بذلك يتمكن من إيصال أفكاره إليهم، ويضم طائفة من المصريين والأجانب، فلعل حرية القول فيه تكون أتم». لكن الأفغانى، وفقًا لرواية أحمد أمين، فوجئ بأن المحفل الاسكتلندى يحظر الحديث فى السياسة، فاعترض على ذلك وخرج منه؛ إذ كيف لا «تتدخل الماسونية فى سياسة الكون، وفيها كل بناء حر». والمثير فى الأمر أن الأفغانى دخل من جديد محفلًا آخر هو محفل الشرق الفرنسى فى مصر!! ويمكن تفسير ذلك فى إطار محاولة الأفغانى الاستفادة من الصراع بين إنجلترا وفرنسا، وهكذا نكتشف أيضًا أن الأمر ليس كما قيل إن الماسونية لا تتدخل فى السياسة.

ولا بد هنا من توضيح مهم فى هذا الشأن، فالصورة العامة لدى القارئ الآن ليست فى صالح المحافل الماسونية، ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو فى زمن الأفغانى؛ إذ كانت محافل رأى وصالونات اجتماعية، واستمرت المحافل الماسونية تعمل فى مصر إلى وقت قريب، ربما فى الستينيات. لكن لا يعنى ذلك أن هذه المحافل كانت بعيدة عن السياسة، فيكفى أن نعرف أن الأمير محمد توفيق كان رئيسًا لأحد هذه المحافل، وهو الذى سيصبح بعد ذلك الخديو توفيق.

هناك ألغاز كثيرة فى سيرة الأفغانى «رجل السياسة»، ومن يلعب سياسة ترافقه دائمًا الألغاز، ولكن هذا لا يجعلنا ننسى الدور الفكرى والإصلاحى للأفغانى، وتأثيره على تلاميذه، حتى أن المؤرخ أحمد عبدالرحيم مصطفى يرى أن الأفغانى كان بمثابة «سقراط» بالنسبة لتلاميذه، لكن هذا الدور الفكرى يحاط بالكثير من الغموض، ويطرح أيضًا العديد من الألغاز التى ربما تستحق مقالات أخرى.