رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماتت "أمى" فى عيد الأم

لم يبقَ إلا أسبوع واحد فقط ويأتى موسم الربيع 21 مارس 2024- 21 يونيو 2024، وهذا يمزق قلبى، فأموت وأنا أواصل التنفس.
"حد يكره الربيع، ده أنتِ مولودة فى الربيع فى أبريل؟".
كل سنة، بنبرة اتهام مريبة، يسألوننى، وكل سنة أكرر: "أكره الربيع"، أحب الشتاء، وأعشق الخريف. والصيف أعتبره "خطأ كونيًا" من حماقات الطبيعة.
تحمل مجتمعاتنا إرثًا ثقيلًا من التعصبات تحتاج بشدة، وعاجلًا، إلى ثورة فكرية تعطينا القدرة على عدم اتهام الاختلافات.  
الديمقراطية والتعددية والحرية ليست فى السياسة والفلسفة والعقائد فقط، ولكن أيضًا فى الميول العاطفية والأذواق الشخصية والتركيبات النفسية. 
إذا كان الجميع يحبون الربيع ويحتفلون به، هنيئًا لهم به، وإذا كان "البيات الربيعى" هو ما أمارسه، وليس "البيات الشتوى"، فهو أمر ذاتى جدًا، شخصى مطلق يرفض الوصاية أو مجرد الاستنكار.
لماذا علينا جميعًا حب "الربيع"؟ أليس هذا إرهابًا؟  
وعندنا إرهاب فى الغناء والموسيقى والأدب والشِعر والصحافة والفن، حيث هناك أسماء "مقدسة" لا تُمس، حتى فى أكلات الطعام وأنواع المشروبات يوجد تعصب وإرهاب.
مثلًا "إنت عمرى"، لقاء السحاب بين "أم كلثوم"، و"عبدالوهاب" 1964، أعتبره أضعف ما غنته "أم كلثوم"، وما لحنه "عبدالوهاب"، فنيًا وموسيقيًا. أقول هذا، فاتُهم بأننى فاسدة الذوق وخائنة للوطن، وأثير فتنة ضد الرموز العظماء. أشياء وبشر نحولهم إلى "آلهة" نسجد لها، نسبح بحمدها، نقدم لها القرابين، ونكفر وننبذ المختلف.
الحقيقة، ليست الغيرة على عظماء الوطن، لأن العظماء لا يضيرهم الاختلاف عليهم،
ولكنه التجرؤ على الخروج من الحشد، وشجاعة الجهر به.
إن "تنميط" الناس هو أقدم أداة لتحقيق الطاعة، والتعليب فى الجوانب السياسية، والثقافية، والدينية، والفكرية، والفنية، والعاطفية، والأسرية.
إن شرط الحرية والإبداع والتقدم الأخلاقى والحضارى يتحدد بعدد المسلمات التى نكسرها، والطوابير التى رفضنا أن ننحشر فيها. والارتقاء بالسعادة، يُقاس بالتفرد من أصغر الأشياء إلى أكبرها.  
"السلاسل" الموروثة هى "العاهة " التى نفخر بالإصابة بها، تشعرنا بالأمان والانتماء، وإننا على الصراط المستقيم.
بالعافية، لازم أحب الربيع، وإلا فإننى ضد دفء الأرض، والتفتح، وعبير الورود، 
ورجوع الدفء، وكلها تثير الشهية للحب والفرح والتفاؤل والرقص والغِناء والكتابة.
لماذا يكون التفاؤل؟، مَنْ قال إن الشجرة العارية أقل فتنة وإلهامًا من الشجرة المثمرة 
والتفتح والرقص والغناء فى موسم رياح التراب وليس فى موسم قطرات المطر؟، لماذا تكون الحدائق أجمل من الصحراء؟ أكذوبة كبرى أن الحب يخاصم الشِتاء، وأن العشق يهرب من الخريف. 
طول عمرى أكره الربيع، الذى يبدأ 21 مارس حتى 21 يونيو، تشاؤم غامض يأتى معه،
أشعر معه بأن هذا التاريخ شؤم. 
ثم انكشف الغموض، ففى أول أيام الربيع، أول أيام "التفتح "، منذ ثلاث سنوات، الأحد 21 مارس 2021، 12 ظهرًا، رحلت أمى "نوال".  
فى أول أيام ربيع الزهور، وتفتح الأزهار، ذبلت "نوال" أمى. 
فى 21 مارس 2021، وفى عيد الأم، ماتت أمى، ولم يعد لى أم.    

                                                        
من بستان قصائدى 
مع تقدم العمر 
أنظر إلى أمى فأرانى 
أنظر إلى نفسى 
فأرى أمى
مع تقدم العمر 
أصبحت أشبهها 
الخصلات البيضاء 
الروح الساخرة
الزاهدة فى الأشياء 
مع تقدم العمر 
تذوب الحدود بينى وبين أمى  
أصبح لى فصيلة دمها النادرة
ورنة ضحكتها الغامرة 
قلبها العفوى الطفولى 
رقتها المفعمة بالصلابة 
حيوية قتلتها أخطاء الأطباء 
قلمها العاشق لشدو الكتابة 
مع تقدم العمر
تبادلنا الأدوار 
أصبحت ابنتى  
ولم تعد أمى  
حزنها حزنى 
أمدها بأفراحى المشكوك فى أمرها 
وهمها أصبح همى    
الآن ألتفت حولى 
فلا أراها ولا أسمعها
أشياؤها الحميمة موجودة
وهى غائبة أين ذهبت؟؟
أين اختفت؟؟ 
بحثت فى كل مكان
بعناء ودون جدوى وبكاء 
كانت فى كل مكان 
واختفت من كل مكان
لكل منْ يهمه الأمر 
ابحث معى عن أمى 
لكل منْ يعنيها الأمر 
ابحثِ معى عن أمى 
ممشوقة القلم والقوام 
والكرامة والأحلام
فاتنة سمراء بشَعر لون الثلج
خطواتها رشيقة تقفز إلى الخطر 
عينان يقظتان تلمعان بلون الليل 
تضيئان النصف المعتم من القمر 
لن تخطئوها 
فهى لا تشبه أحدًا إلا نفسها 
إن وجدتموها 
أخبروها أن ابنتها الوحيدة
بالألم تنزف 
إلى أحضانى ارجعوها 
إلى قلمها وسريرها 
إلى ابنها ومعطفها الأزرق 
من رحمها جئت 
لكنها كانت طفلتى.