رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفساد فى الوطن العربى أكبر عوائق التنمية والنهضة


الرشوة تتسبب فى ضياع ربع الجهد الاقتصادى للدول الإفريقية، الأمر الذى يؤدى بدوره إلى تفاقم ظاهرة الفقر لديها.

يخوض العالم العربى اليوم معركة محتدمة فى ظل العولمة من أجل التحرر والتقدم الاجتماعى ومن أجل التنمية الحقيقية والمستقلة ولعل التعاون الجماعى فيما بين هذه الدول يشكل شرطاً أساسياً للنجاح فى هذه العولمة وتحقيق الأهداف المتوخاة وبالتالى فإن قيام وحدات إقليمية يشكل علامة إيجابية متناقضة مع الرأسمال المعولم الذى يسعى للتجزئة لتكريس الاستقلال والنفوذ والتبعية.

والحقيقة أن دول العالم الثالث سعت بعد الحصول على استقلالها إلى إقامة تجمعات كمجموعة دول الانحياز والاتحادات الإقليمية وإقامة الجامعة العربية والمؤسسات الاقتصادية التابعة لها غير أنها فشلت كل هذه التجارب فى تقديم الحلول الملائمة.

فالتعاون بين دول مجاورة جغرافياً أو متقاربة إقليمياً أو دينياً يتطلب إرادة سياسية لتسهيل الاتفاق على قرارات تكون فى خدمة المجتمع، فالهدف من التكامل هو تعزيز الجهود الإنمائية لكل طرف فى هذه الطبقة التكاملية أو الوحدوية تمهيداً للخروج من الحلقة التى فرضها التخصص وفقاً لنظام التقسيم الدولى السائد الذى كرسته الدول الاستدمارية «فرنسا وبريطانيا»، وبالتالى فإن تخلص بلدان العالم العربى من آثار هذه الحلقة لا يمكن أن يتم إلا بالتعاون فيما بينها على أسس متينة وصلبة. ولذلك فقد تصاعدت النداءات من أجل التكامل فيما بينها ومن ثم الوحدة، مستندين إلى الشعور بالقومية العربية كأساس لهذه الوحدة، وقد قوى هذا الشعور نتيجة لعاملين كان لهما الأثر فى حشد الرأى العام فى الدول العربية: - ضرورة مواجهة التجزئة التى فرضتها فرنسا وبريطانيا واستعادة المجد العربى.

ونذكَّر هنا بالدور الذى لعبته ثورة 1973 فى إذكاء الشعور لدى الشعوب من خلال التصدى للمشاريع الغربية وإعادة احتواء الدول العربية، تواجد الصهاينة كقاعدة متقدمة للدول الغربية فى منطقة يجمع بينها التاريخ والحضارة واللغة والمصالح المشتركة والهدف من قيام هذه الدولة العنصرية تقطيع أوصال هذه المنطقة وحماية مصالح الدول الغربية الهادفة إلى استغلال ثروات المنطقة العربية، وبذلك يجب فرض منطق الوحدة العربية نفسه كمدخل لاستكمال استقلال الوطن العربى. من المعلوم أن السيطرة على الموارد وتحرير الثروات القومية واستغلال الدول الغربية هى الشرط الأساسى لنجاح عملية التنمية المستقلة فى دول العالم الثالث، إذ بدون هذه الخطوة لا يمكن الحديث عن إمكانية تحرر هذه الدول وانطلاقها فى عملية التنمية الحقيقية، تشكل العلاقات غير المتكافئة القائمة بين العالم الثالث والرأسمال الأجنبى العائق الأساسى أمام تطور هذه البلدان وإنجاز استقلالها، والسير على طريق البناء للدولة المستقلة.

ولا فكاك من هذه العلاقة إلا بالسيطرة على ثروات البلاد ومواردها من قبل أصحابها، ولا يمكن أن تتحرر هذه البلاد وتبنى اقتصادها المستقل وتعزز موقعها فى النظام الاقتصادى الدولى إلا من خلال نفى التبعية، وإقامة علاقات متكافئة مع أطراف النظام الدولى، وإرساء قيم ثقافية وطنية عالمية جيدة، تصون الهوية الوطنية، ولا تعزل نفسها أو تتقوقع على ذاتها، خائفة من غيرها، مضخمة من شأن نفسها عن حق أو من غير حق، العمل بدأب وبشكل مستمر على خلق كوادر ثقافية قادرة على حمل رسالة التنمية الثقافية والوصول ببرامجها إلى أقصى درجات التحقق، فكم من برنامج طموح أفسده الموظفون الذى يعملون فى حقل الثقافة، بتفكيرهم الروتينى والمتخلف، رفع القيود المفروضة على العمل الأهلى بتكويناته ومنظماته، وإفساح المجال أمامه ليحقق رسالته فى نشر الوعى، وتدريب كوادره على العمل الخلاق التطوعى، وإعطاؤه الفرصة للعمل بحرية فى النشأة والتأسيس والممارسة، تأكيد الحرية والديمقراطية للفرد والجماعة على كل الأصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية كشرط أساسى لقيام وعى عربى مدرك لذاته وللعالم من حوله الآن ومستقبلا.

وحسب منظمة الشفافية الدولية فإن الرشوة تتسبب فى ضياع ربع الجهد الاقتصادى للدول الإفريقية، الأمر الذى يؤدى بدوره إلى تفاقم ظاهرة الفقر لديها. لذا تدعو المنظمة الدول المصدرة لمزيد من الملاحقة القانونية لقضايا الرشوة لديها وترى المنظمة فى ذلك وسيلة مهمة لمحاربة الفقر. ولا تقتصر ظاهرة الرشوة على دفع الشركات المصدرة أموالاً للمسئولين فى الدول المستوردة، فالعكس يحصل أيضًا، وذلك بدفع أموال للمسئولين فى الدول المصدرة خصوصًا عندما يتعلق الأمر بتصدير الأسلحة. خلل الأنظمة السياسية هو السبب: إن سبب ظاهرة الفساد هو الخلل الكبير والواضح الذى يكتنف الأنظمة السياسية العربية؛ إذ إن الحياة السياسية متمثلةً فى التعددية الحزبية، شبه معدومة، وإن وجدت فإنها تكون غير فعالة، وقد تزامن هذا الخلل مع غياب مبدأ فصل السلطات الثلاث (التشريعية، القضائية، التنفيذية) ولا يخفى على أحد ما لغياب هذا المفهوم من أثر كبير وواضح فى تغلغل وانتشار هذه الظاهرة المقيتة، ففى هذه الأنظمة تندمج السلطات الثلاث ضمن سلطة واحدة هى السلطة التنفيذية التى أصبحت تسيطر على جميع مجريات الحياة فهى القاضى والحكم والمشرع والمنفذ فى ذات الوقت. ولقد أصبح من الصعوبة بمكان تخيل نظام ديمقراطى فى الدول العربية بسبب الثقافة السياسية للنخب السياسية وطبيعة المجتمع القبلية ومظاهر القمع الاجتماعى والسياسى ومصادرة حقوق الآخرين، وهذا مما ساعد هذه الأنظمة على أن تتحول إلى أنظمة دكتاتورية فردية قائمة أساسًا على الفساد ولا تمت للشرعية بصلة وتعتبر إشاعة الفساد عاملاً من عوامل ديمومتها. أهم الآثار الاقتصادية المترتبة على الفساد الزيادة المباشرة فى التكاليف، فالمبالغ التى يدفعها رجل الأعمال إلى الموظف الحكومى الكبير مقابل الحصول على تسهيل معين، مثل الحصول على إذن باستيراد سلع معينة من الخارج أو الحصول على مناقصة أو عطاء معين، لن يتحملها رجل الأعمال فى النهاية، ولكن فى الغالب يتم نقل عبئها إلى طرف ثالث قد يكون المستهلك أو الاقتصاد القومى ككل أو كليهما معًا، حيث يقوم رجل الأعمال بكل بساطة برفع سعر السلعة التى استوردها من الخارج أو رفع تكلفة المناقصة أو العطاء؛ ليعوَّض ما دفعه من رشوة، وذلك يعنى أن المستهلك الذى يشترى هذه السلعة هو الذى يتحمل عبء الرشوة، وقد تتحملها ميزانية الدولة إذا كانت الحكومة هى التى تشترى السلعة، إلى جانب ذلك.. قد يؤدَّى استيراد هذه السلعة إلى زيادة الطلب على العملة الأجنبية لإتمام الصفقة، وهو ما يمثَّل ضغطًا على العملة المحلية، ويخفض قيمتها، وهذا يعنى أن الاقتصاد القومى ككل هو الذى يتحمَّل عبء هذه الرشوة. والخطير فى الفساد أنه يغير المعايير التى تحكم إبرام العقود حيث إن التكلفة والجودة وموعد التسليم وأمثالها هى التى تحكم إبرام العقود فى الظروف العادية، ولكن فى ظل الفساد يصبح المكسب الشخصى لكبار المسئولين هو أهم العوامل فى إبرام العقود ويقلل من أهمية المعايير الأخرى وهذا يؤدى إلى اختيار موردين أو مقاولين أقل كفاءة وشراء سلع أقل جودة. ونتيجة لغياب النظام السياسى السليم فإن برنامج الخصخصة الذى تنتهجه الحكومة المصرية يمثل أكبر عملية فساد كبرى فى البلاد لأنه بوابة ملكية للمفسدين لاغتصاب المال العام أثناء عملية بيع وحدات القطاع العام، مطالبًا بتفعيل صلاحيات جميع الأجهزة الرقابية ومجلس الشعب فى الرقابة على أعمال الجهاز التنفيذى ومحاسبة أباطرة الفساد من مسئولى الحكومة. إن غياب الشفافية والديمقراطية فيما يتعلق بالأعمال العامة للدولة من أهم أسباب انتشار الفساد؛ لأن النظم الديمقراطية توفر آلية لمنع الفساد، حيث تكون هناك جهة رقابية خارج سيطرة السلطة التنفيذية تستطيع محاسبة المسئولين الحكوميين عن أى تجاوزات مالية وإدارية، فالملاحظ أن مفهوم الدولة، ومفهوم المُلْك العام، لم يتجذرا بشكل كافٍ فى دولنا العربية المعاصرة، بحيث يشعر الموظف بأنه موظف، وأن المال الذى فى الصندوق أمامه، ليس ملكًا شخصيًا له. فبقاء رئيس السلطة والجهاز الموالى له مدة طويلة، أحيانًا طويلة جدًا فى السلطة، يُغرى ويقود إلى التصرف بالمال العام وفى مرحلة متقدمة إلى النظر إلى المال العام، بل إلى الدولة كلها، وكأنها مُلْك شخصى للحاكم وللبطانة التى تحته. وهكذا، فإن غياب الديمقراطية الحقيقية وغياب تغيير السلطة بشكل دستورى ومنظم، وغياب الديمقراطية وغياب القوانين الرادعة واحتقار الجهاز الحاكم للشعب كل هذا يحوَّل الحكام إلى لصوص عالميين ويحوَّل الجهاز إلى خدم عند الحكام لا خدم عند الشعب «سيد البلاد وأساس كل السلطات»، وهذا يقودنا إلى الاستنتاج المنطقى القاطع: فى ظل نظام ديمقراطى يتقلص الفساد، ويصبح غير شرعى وغير قانونى، أما فى ظل الدكتاتورية ونظام الصنم الواحد والحزب الواحد، فليست هناك رقابة ولا ضوابط تمنع الفساد أو تمنع تعمّق طاعون الفساد.

■ أستاذ القانون الدولى