رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هناء متولي: دوافعي لكتابة "يوم آخر للقتل" قديمة.. والشخصيات والحوادث تتجسد أمامي

هناء متولي
هناء متولي

عن الموروث المصري الراسخ منذ عقود في جنبات القرى المصرية، تقدم الروائية هناء متولي في روايتها الأحدث "يوم آخر للقتل" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية أسباب هذا الموروث الذي كان له صدى تجاه المرأة من قهر وعصف.

تنحو الساردة صوب خطاب معرفي تتعدد دلالته عبر تمازج الضمائر وحرفية القص بلا إدعاء يذكر عن _ ثمة تشابه يذكر من قبل هناء متولي فيما يخص استحضارها لمفردات غيرها من كاتبات المرحلة ورؤى الحداثة وما بعدها، لكن الفرادة في رواية يوم آخر للقتل، تكمن في تلك الوقائع/ الواقعية وهذه الجرائم التي ترتكب كل ساعة ضد المرأة تحت سطوة غشم تحكم الرجال في مجتمع ذكوري هش، لم يزل يعامل المرأة بدونية وكأننا لم ننته بعد من صور الجواري وعن كل هذا وأكثر.

“الدستور” التقت هناء متولي ودار معها الحوار الذي بدأناه:

_ بداية.. كيف كانت الدوافع لكتابة "يوم آخر للقتل"؟ 

أظن أن الدوافع قديمة وعميقة جدًا بعمق تجاربنا الفردية الخاصةبالنساء في التعامل مع العالم حولنا خاصة في الوضع الريفي حيث المجتمع  مغلق يسيطر عليه العقل الجمعي المتأثر بعادات بالية وصورة آلية مؤذية في التعامل مع النساء، لكن هناك حادث مؤسف جدًا ومؤثر فينا جميعًا، كان حادثة مقتل فتاة جامعة المنصورة" نيرة أشرف" والتي تم نحرها بواسطة زميلها وأمام أعين الجميع، ثم توالي حوادث عنف مشابهة ضد النساء والفتيات خاصة في محافظة الدقهلية والتي انتمى إليها، ما أشاع في الجو العام للمنطقة روح مظلمة من الكآبة والحزن والهوان وقلة الحيلة، شعورًا قاتمًا يشبه العجز عن التنفس والغرق في وسط الماء، أظن هنا كانت البداية والإيحاء الخاص بالرواية وفرصتي للتغلب على الحزن والغضب.

-عن كلًا من سارة وسمية وإنجي وأسما، كل هذه الشخصيات التي تؤكد أنه لا جديد في القرية المصرية فيما يخص الموروث العفن، هل كانت هناك دوافع واقعية" ذاتية"، لكتابة هذا العمل؟ 

- أخبرك سرًا، أنا لا أكتب عن شخصية أو موقف حتى أراه، هنا لأ أعني الرؤية الحقيقية لشخصية أو موقف حدث بالفعل، لكن أقصد أن الشخصيات والحوادث دائمًا تتجسد أمامي وتطاردني حتى اتخلص من نفوذها بالحكي عنها، لكن في يوم آخر للقتل، الشخصيات هنا في الغالب من لحم ودم، زاملتني إحداهن في الدراسة وأخرى كانت صديقة مقربة وثالثة سمعت عنها قصة طويلة، دعني أخبرك أن قصة فاطمة القتالة هي أسطورة حقيقية في ريفنا، ولقد التقيت بهدة السيدة في مرة وحيدة وعرفتها عن قرب، وتعجبت كثيرًا من تلك الهالة المرسومة بخرافة شديدة لامرأة تعرضت لأزمة كبيرة في حياتها، بالطبع عندما تحولت إلى شخصية في روايتي بدلتها كثيرا ودمجت أنا بدوري خيالي بالرؤية عن قرب والخرافة المزعومة، بالنسبة  لي كانت شخصية أسطورية في الكتابة عنها، شخصية بسيطة مسالمة في التعرف عليها من قرب، الأنماط النسائية هنا متماسة ومتقاربة مع الواقع بشديد التشابه وتمام الأختلاف.

_ كيف جاءت بدايات التفكير في النشر بالدار المصرية اللبنانية؟

النشر في الدار المصرية اللبنانية كان حلمًا بالنسبة لي، لكنني لم أتمتع بالجرأة الكافيةفي عرضها على لجنة القراءة بالدار بشكل مباشر، وتم ذلك عن طريق الأستاذ العزيز والشاعر الكبير المفضل بالنسبة لي وهو أحمد الشهاوي، عرضت عليه الرواية كمخطوطة بحكم أستاذيته وأمانته وهو حقيقية في أوقات طويلة كان متحمسًا للنص أكثر مني، وقدمه للدار المصرية اللبنانية حيث رأي أن الخط الإنساني والبعد الفني ملائم جدًا لسياسة النشر بالدار، ثم كان التعامل المباشر مع الناشرة العزيزة أستاذة نيرمين رشاد، والتي اعتبرها فضلًا عن كونها واحدة من أهم الناشرات العربيات، إلا أنها لها رؤية فنية عميقة جدًا ودرجة كبيرة من الانفتاح على التطور الفني والثقافي للرواية، ولا أنكر أبدًا أن ملاحظاتها الفنية ساعدت النص كثيرًا على التطور

_عن تعدد الأصوات وكل الظن انها شخصية واحدة تدور حولها حكايات تلك القرى، كيف تري هناء متولي الفارق بين الريف والحضر في ٢٠٢٤؟ 

-أظن أنها نفس الفوارق القديمة والأزلية بين الريف والمدينة، الريف في الغالب تربط بين الجميع علاقة أسرية إما بكون أغلب العائلات تنحدر من سلالتين أو ثلاث على الأكثر، والبقية تجمع بينهم علاقات النسب، ذلك التشابك يجعل كل فرد واصيًا على الآخر منشغلًا بحياته وحاكمًا عليها، مما يجعلنا في تناقض وصراع بين حقيقتنا وما نود إظهاره، بالتأكيد الخصوصية بمصر كلها عليها علامات كبيرة، بطبعنا شعب فضولي ويهوى التنظير والأحكام، لكن في الريف الأمر شديد التعقيد، هنا نواكب التطور بشكله الظاهر، نحول القرى إلى مدن صغيرة لكنها مشوهة، التغيير فيها سطحي وظاهري، نسمح للفتيات بالتعليم والسفر للجامعة وحريات أكبر في اللبس لكننا نصفهم بالجريئات الغير مهذبات أو نبرر ضدهن عنفًا ذكوريًا بحكم الولاية أو الأمان.

العنف متزايد في مصر كلها خاصة في الدقهلية، لكن هنا النساء والفتيات الصغيرات يتمتعن بشخصية متطورة أكبر من الذكور في نفس المرحلة العمرية ممما يبرر تشاحنًا يفوز به الرجل إن كان فقط جسديًا، بالأخير هذه  رؤيتي الخاصة.

-هناك الكثير من الوشائك التي تخص  ال هاي تكنولوجي والتواصل الاجتماعي وعلاقتها بفساد وتجهيل المرأة المصرية في المدنية قبل الريف، كيف ترى هذه الإشكالية كما طرحتها رواية يوم آخر للقتل؟ 

الجهل والتسليع، التطور التكنولوجي في المجتمعات ذات نسب التعلم والثقافة الضعيفة كارثة، هنا ينعدم الرقيب الذاتي النابع من الوعي والتجربة والتعلم، فالتعامل بعفوية وسذاجة مع تطورات حداثية صعب جدًا على مجتمعاتنا، أعذرني، فأننا   نسير بسياسية القطيع والتقليد حتى في الشر، بعد حادثة نيرة أشرف، وكل هذا الزخم في السوشيال ميديا والشائعات والأحكام، الشباب، لنقل نسبة ما منهم كروروا التجربة كونها تصرف ذكوري يدعو للفخر، وذلك واحد من كواراث التعامل الساذج  مع التطور التكنولوجي في نقل الشائعات والسلوكيات العنيفة.

_في سيرتك الذاتية " المعنونة" هناك منحة من قبل الاتحاد الأوروبي في الرواية  وجائزة سعاد الصباح في القصة القصيرة، انطلاقًا من هذا، كيف ترى المبدعة هناء متولي علاقتها بالجوائز العربية والعالمية؟ 

_بالنسبة لجائزة سعاد الصباح للإبداع العربي، فهي جائزة عزيزة جدًا على قلبي، كانت المرة الأولى التي اتجرأ فيها على كتابة القصة القصيرة، كنت اكتب دون حسابات وبتحرر وتجرد كبير، كتبت عنّ ألالام والأوجاع النسائية، وتحررت من الشكل النمطي للقصة، كتبت قصتين بشكل مسرحي، وارسلتها لأمانة الجائزة في الساعات الأخيرة بناء على نصيحة من صديق، ثم فزت بها. 

أما عن منحة الاتحاد الأوروبي فأنا فخورة بها جدًا لأنها في الرواية، ولأنها كانت داعمة لي بشكل خاص للكتابة عن العنف ضد النساء، شجعتني المنحة على التقدم في مشروعي.

بالطبع الجوائز والتقدير مهم جدًا خاصة في الخطوات الأولي للكتاب، خاصة لكاتبة ريفية مثلي. لكن بالتحرر من الكتابة لنمط معين لأنه يناسب الذائقة العامة للجوائز، ذلك يقتل الموهبة، على الكاتب أن يكتب أولًا لذاته ومخلصًا لفنه، وإذا حصل على نقدير في هذه الحالة، فهو حقيقة قفزة كبيرة في مشواره. الذائقة والحسابات متغيرة لكن الفن باقٍ.

_وكيف تعامل الوسط النقدي الثقافي مع نصوصك الأدبية وتحديدًا يوم آخر للقتل ؟ 

_في الحقيقة أستاذ حسين عبد الرحيم، أنا اعتبر حضرتك تميمة حظ لي، فأنت من اهتممت بحصولي على جائزة سعاد الصباح، لكن لعذر شخصي مني لم نتمكن من إكمال الحديث وقتها، أظن الأزمة كانت في عدم نشر المجموعة القصصية وتوقف الجائزة لفترة طويلة، لكن في رواية يوم آخر للقتل، فانا احصل على اهتمام نقدي بالرواية جيد جدًا منذ اللحظات الأولى. 

_ إذن ليتك تحدثينا أو تطرحين لنا وللقراء فيما يخص جدوى الخريطة النقدية بشكل عام وعلاقتها بالكتابة عربي وعالمي ؟ 

النقد هو شريك الإبداع، هو الضوء والداعم، ولذلك هناك واجب كبير جدًا على الناقد أن يكون متطورًا دائمًا ومنفتحًا على النصوص الأدبية، ولابد من وجود النازع الإبداعي والأخلاقي في تحمل الناقد لمسئوليته الكبيرة في الكشف عن التحف الأدبية المجهولة والمنسية، والتحمس للكتاب الجيدين في بداياتهم وإبراز التجارب المتطورة، بالإضافة لدوره المعتاد بالإشادة بالنصوص الكبيرة، العلاقة تكاملية والتطور الأدبي مرتبط بها تمامًا، وعلى الكاتب ايضًا تقبل النقد، وعدم أخذ التعليق الفني السلبي بشكل شخصي طالما هناك الثقة والنية الطبية، لا يوجد عمل فني كامل ولن يوجد.

في رأيي التمام والكمال ليس فنًا بالأساس، الفن ثائر ومغامر وبوهيمي أحيانًا.

_نعود للبدايات واحترافك للكتابة،  ثمة موهبة سردية، هل هناك مثل اعلى في احترافك للكتابة؟

من الممكن اعتبار أن معاناتي الخاصة والفردية كانت هي دافعي الأكبر للكتابة، لا أخجل أبدًا أن أكرر أن الكتابة هي رحلة الشفاء الذاتي الخاصة بي، ومازالت وربما حتى النهاية. 

لكن هناك نصوص شديدة التميز أثرت بي بشكل خاص، وربما كانت هي الدافع وراء جرأتي وتعرضي للكتابة، أذكر منها هنا بعض النصوص كأمثلة بسيطة: 

رواية" حذار من الشفقة" لستيفن زفايج، رواية مدام بوفاري لجوستاف فلوبير، الجريمة والعقاب لديستوفيسكي، فردوس والجوع البساطي، مالك الحزين لأصلان، وأنا حرة لإحسان عبد القدوس والحرام ليوسف السباعي، ربما كلما قرأت نصًا منهم تمنيت في داخلي وبدون وعي أنا أجاريهم في ذلك الفن العظيم. 

_عن كل هذه ألألام وتمدد جذور العنف والاستيلاب والقهر والعبودية واستغلال المرأة في واقعنا المصري وتحديدًا  الريف، كيف ترى هناء متولي الرؤية المستقبلية فيما يخص ما آلت اليه الأوضاع من الجانب الثقافي والسياسي والاجتماعي ؟ 

_الرؤية أيضًا مشوشة، التغيير لابد من أن يبدأ من القاعدة، بالقضاء على الجهل وتعزيز سيادة القانون، وتمكين حقيقي للنساء بل بالعكس التمكين للفتيات الصغيرات وتغيير صورتهن الذهنية عن أنفسهن، الفتيات يبدأن مبكرًا بكراهية الذات الأنثوية نتيجة لأفكار وموروث شعبي شيطاني، لابد من العمل الحقيقي على هذا التغيير، أغلب المنظومات الحقوقية والنسوية تخدم الشعارات والأفراد المنتمين لها فقط، دون دور فعلي على أرض الواقع.

_ كيف كان التفكير في تقنية الكتابة المستخدمة في رواية "يوم آخر للقتل"؟ وعن المدة الزمنية؟ ولماذا الآن؟ 

صدقًا في البداية لم تكن هناك رؤية محددة لبناء الرواية، لقد لجأت للتجريب في أكثر من حالة، لكن اجد نفسي دائمًا ومع بداية الفكرة، تتزامن الرؤية البصرية مع التشكيل الغرائبي، وجهة نظري أن الغرائبية ودمج الخيال بالواقع والصورة البصرية العالية تمكن الكتاب من مساحات أوسع من التحرر الأبداعي، فالكاتب لا ينقل الواقع، بل ينهل منه ويتشبع به ويحوله إلى فن جديد وآسر، وخاصة في بيئة الريف التي تتمتع بمزايا عالية للكتابة الغرائبية، وفي بعض الأحيان اشعر بروح القصة القصيرة متداخلة مع النص السردي الروائي.

أما عن المدة الزمنية فقد عانيت من دخول وخروج كثير في حالة الكتابة وذلك كان راجعًا  لظروف شخصية والأحداث العالمية القاتمة المصاحبة لتفشي مرض كورونا، كتبتها في عامين. 

أما عن الآن، فالحاضر قوى عظمي لابد من الاستجابة لها دون ترحيل لوقت آخر. 

_هل للطفولة  والسنوات الاولي في حياة الكاتب الدور الطاغي لأشكال الكتابة؟ 

بكل تأكيد، الطفولة وأزماتها وعقدها تشكل الإنسان الحالي، بتجربته الخاصة وآماله وأوجاعه وخلاصه، وليس الكاتب فقط، نحن نقع دائمًا أسرى لتلك التجربة، نستعيد منها الأنماط والأشكال ونكررها في مراحل جديدة أو تطاردنا في هواجس نكتب عنها دائمًا دون وعي، سعيدة لانتباه العالم لهذه الإشكالية وتطور طرق التشافي للطفل بداخلنا.

_عن مفردات الجدوى والسلوى والخلاص ما هو مفهومك لكلًا من هذه المفردات وتحديدًا الجدوى؟ 

البحث عن الجدوى هي أزمتنا العميقة في هذا الكون التطور والعولمة والتكنولوجيا كلها فاقمت من الشعور باللاجدوى والاغتراب واللاقيمة خصوصًا مع تعمد تحجيم الدور الأنساني والمشاعر البشرية لنتحول  جميعًا إلى ما يشبه مسخ العزيز كافكا، هنا دور الفن الأبدي والأزلي لإنقاذ البشرية ومساعدتها في تجاوز كل ذلك التشويه والقبح، كل منا يرى سلواه في شيء ما كالفن أو الرياضة، العائلة أو النجاح الشخصي أو حتى الاندماج في الهم العام، لكن دائمًا الفن هو المنقذ للبشرية منذ الأنسان الأول الذي احترف الرسم والرقص والحكي ثم التسجيل. 

_هل ينتهي حلم الكاتب بالخلاص الوجودي الفردي مع الانتهاء من روايته ؟

أنا مؤمنة بنظرية " موت المؤلف" في اللحظة التي ينشر فيها العمل، افقد كل سلطة عليه، ولكن مع ذلك فأظن أني اتخلص معه من  جزء من ألم دفين، ليترك مساحة لمعانات أخرى جديدة تطلب التحرر.