رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإمام محمد عبده

يهل علينا شهر رمضان الكريم، الشهر الذى أُنزِل فيه القرآن الكريم رحمة وهدى للعالمين. الشهر الذى شهد أعظم انتصارات الإسلام والمسلمين على مر التاريخ، وهو الشهر الذى يُعبِّر بحق عن ماهية الإسلام الصحيح، الإسلام الوسطى، الرحمة والهدى.
وهنا نتذكر أحد أشهر المجددين فى الإسلام، مجدِّد القرن العشرين، الإمام محمد عبده، رائد الإصلاح الدينى، وفى الوقت نفسه المُحِب لدينه ولوطنه، والذى قدم لنا خير مثال لحب المسلم لوطنه، وليس تجاوز فكرة الأوطان من أجل حلم الخلافة.
توفى الإمام محمد عبده فى عام ١٩٠٥، ولكن لا يزال إنتاجه التجديدى هو المصدر الأساسى الذى يعتمد عليه أى مفكر تنويرى حتى الآن. كان محمد عبده بحق عالمًا مستنيرًا ومفكرًا عضويًا. لم يكتفِ محمد عبده بدور المجدد الدينى، وإنما شارك بكل ثقله فى الحركة الوطنية فى مصر، من أجل مستقبل أفضل لوطنه. من هنا كانت مشاركة محمد عبده فى الثورة العرابية، ثم نفيه خارج البلاد، بعد هزيمة الثورة والاحتلال الإنجليزى لمصر فى عام ١٨٨٢.
وروَّج البعض لمقولة شهيرة بأن محمد عبده قد قاطع السياسة، وابتعد عنها بعد صدمة هزيمة الثورة ونفيه إلى الخارج. وأكد البعض ذلك بالإشارة إلى المقولة المنسوبة إليه حول لعن السياسة، ومن ساس ويسوس، وهو ما سنشهد عدم صحته بعد قليل. وعلى الرغم من صدور العديد من الدراسات المهمة حول الإمام محمد عبده، حياته وفكره، إلا أن الإمام ما زال يبهرنا حتى الآن بالجديد حول فكره ودوره السياسى والوطنى.
وتعد دراسة «من أوراق الإمام محمد عبده المجهولة- مشروع استقلال مصر ١٨٨٣»، تحقيق ودراسة المؤرخ الكبير عماد أبوغازى، بالاشتراك مع دكتور وليد غالى، من أهم الدراسات الجادة حول الإمام فى السنوات الأخيرة؛ إذ تكشف الدراسة، لأول مرة، المشروع المنسوب إلى الإمام محمد عبده حول استقلال مصر فى عام ١٨٨٣، وضرورة جلاء القوات البريطانية عن مصر، بعد احتلالها فى عام ١٨٨٢. وبدايةً تثبت الدراسة من خلال أوراق هذا المشروع أن محمد عبده لم يُطلق السياسة كما روّج البعض. كما توضح الدراسة أن الشغل الشاغل لمحمد عبده حتى وهو فى المنفى كان استقلال مصر، وجلاء القوات البريطانية عنها. ويوضح المشروع أن محمد عبده استعان فى إعداد بنود مشروع الاستقلال بمشورة بعض الإنجليز المستنيرين، ولعله يشير هنا إلى مستر بلنت الشهير، صديق أحمد عرابى، الذى ساند الحركة الوطنية المصرية.
ومن النقاط المهمة والمضيئة فى هذا المشروع ما تؤكده الدراسة حول بقاء «الحزب الوطنى» حزب الثورة العرابية، حتى بعد فشل الثورة العرابية، وبقاء التواصل سرًا بين أعضائه. وترجح الدراسة الرأى القائل بمجىء محمد عبده سرًا إلى مصر من منفاه، وتؤكد أن ذلك كان فى إطار عرض مشروعه على ما تبقى من أعضاء الحزب الوطنى. ويتقدم مشروع الاستقلال خطوة فى طريق استقلال مصر، فهو وإن اعترف بتبعية مصر للدولة العثمانية، إلا أنه رسم ملامح تبعية اسمية، حتى يضمن استقلال مصر وحيادها. كما ذهب خطوة أوسع فى طريق الاستقلال ومشروع مصر للمصريين؛ حيث لم يعترف بالحقوق التاريخية لأسرة محمد على فى حكم مصر، خاصةً بعد خيانة الخديو توفيق للأمانى الوطنية، حيث نص مشروع الاستقلال على أن الشعب المصرى هو الذى يختار حاكمه. كما التزم مشروع الاستقلال بضرورة سداد ديون مصر، حفاظًا على سمعة مصر الدولية.
ما زال الإمام محمد عبده يبهرنا حتى الآن، ليس بفكره الدينى الإصلاحى فحسب، بل بنضاله السياسى وحبه لوطنه. ما زلنا حتى الآن فى حاجة دائمة إلى العودة لننهل من تراث الأستاذ الإمام.