رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين الموصل وأوسلو

محمد المفتى
محمد المفتى

أوسلو - الساعة ٠٥:٣٥ مساءً

مالت دانا قليلًا على سيف، حتى ألصقت كتفها بكتفه، وكانت يده لا تزال فى يدها، لكنها أطلقتها، وربتت على فخذه اليمنى. التفت إليها، ناظرًا فى عينيها، ابتسمت له، أخبرته ابتسامتها بأنها ترى أن الأمور تسير على ما يُرام. بدأت الأصوات فى الصالة ترتفع بعد زيادة عدد الحضور، هذا يرحب بهذا، وذاك يسأل عن زملائه، وآخر يتفقد مقعده. وكان سيف يسمع صوت وصول إشعارات الرسائل الإلكترونية، لكنه لم يفتح أيّا منهًا، عدا رسالتين، الأولى كانت من رضوان، والثانية كانت من عمر، كتب له فيها: «خالى الحبيب، تمنياتى لك بالتوفيق»، رغم قصرها فإنها أسعدته حد الدموع. نظرت دانا إليه لمعرفة سبب تأثره، فأدار إليها شاشة التليفون.

أغلقت عينيها ومالت باتجاهه أكثر، حتى لامس رأسها رأسه. قرأت الرسالة ولم تصدق عينيها، وقالت له بتأثر: «عمر يحبك كثيرًا».

ما إن رُفعت الستارة، حتى اصطبغت رقبته بلون أحمر. تحدث إيجل عن أسماء المكرمين، وابتسم سيف له عندما بدأ بتعريفه للجمهور، وشعر بالرضا عندما قال:

- وبجهوده تمكنّا من إلقاء الضوء على البشاعات التى ارتكبها داعش فى الموصل.

كررها ضاغطًا حروفها مرتين: «فى الموصل»، وفى الوقت نفسه ظهرت صورة كبيرة على الشاشة العملاقة خلفه. كانت هى الأفضل من بين الصور التى تمكن سيف من قنصها فى معقل الدولة الإسلامية، صورة كادت تكلف سيف حياته، وكبروها بحيث إن وجه الرجل الذى صوره سيف ملأ الشاسة وهو يبحلق بعينين تقدحان شررًا فى كل الجالسين فى الصالة. صمتت القاعة، ولم يعد يسمع حتى أنفاس الحاضرين، وكان على قناعة بأنه لو كان للأدرينالين رائحة لشمها بوضوح. تحدث إيجل عن الوضع فى مدينة الموصل، وفى هذه اللحظة بدأ جوال سيف يهتز بلا توقف فى جيبه، كانت تصله إشعارات كثيرة ما بين رسائل واتصالات. ضايقته تلك الاتصالات المتكررة؛ لأنه كان ينتظر إعلان اسمه بعد لحظات ليصعد على المسرح.

فكر بإغلاق الجوال نهائيًا بعد استمرار الإشعارات، بينما كانت دانا تبحلق فى الشاشة، وتكتب بسرعة، وتعلق باهتمام، وشعر سيف بأنها لا تنقر على الحروف، بل تحاول خرق الأزرار بإصبعها. نظر إلى دانا ليطلب منها أن تكتب للمتابعين أنه سيكون على الهواء بعد دقائق حتى تتوقف هذه الاتصالات الملحة. لاحظ أن عينيها قد اتسعتا وهى تقرأ التعليقات بدهشة، حدثها لكنها لم تُجبه، فتشوش فكره، ما الذى يمكنه أن يشغل تفكيرها بهذا الشكل، وفى هذا الوقت؟ أمسك بيدها وسألها عما بها، فرفعت يدها قائلة بصوتٍ لم يعرف ماهيته، لا هو بالشفقة ولا الحيرة نبرتها شوشته:

«لا شىء»، أدرك أنها تخفى أمرًا، فنظر بسرعة إلى الرسائل الإلكترونية، إن جواله على فخذه، ضغط على الرسالة الأولى ليفتحها، وقرأ «أنت تعرفه كذلك، يا لها من صورة!». تفحص الرسالة مليًا وسأل نفسه محملقًا: «من هذا الذى أعرفه؟».

الموصل - الساعة ٠٥:٣٥ مساءً

فى البيت الأبيض على جانب النهر الخالد شُغلت تقريبًا كل الكراسى والآرائك برجال يطفحون بالزهو بمناصبهم فى الحكم، وجلس أبوياسر المصلاوى وحده على الأريكة التى كانت فى صدر المكان. أصبح لون السماء فوق دجلة رماديًا أدكن، وكانت الإنارة فى منطقة الغابات قد بدأت تتضح بتواتر مع حلول الظلام. فى الساعة الخامسة وأربعين دقيقة سمعوا أصوات محركات السيارات تزأر فى حارات بعيدة وتقترب منهم شيئًا فشيئًا، قال كثير من الحضور:

- الخليفة رضى الله عنه فى الطريق إلينا.

هز أبوياسر المصلاوى كتفيه، وجعل عباءته تنسدل بانتظام عليها، ووضع يديه على فخذيه، بينما جلس كثير من الحضور على أطراف الكراسى على أهبة الاستعداد للوقوف بوجهه حال دخوله إلى الشرفة. ما إن سمعوا أصوات السيارات تتوقف أمام الباب حتى سحب عدد منهم المسواك بحركة أوتوماتيكية من جيوبهم وحكوا أسنانهم به بهمة عالية، وكثيرون أخرجوا كذلك عطر العنبر وقطروا قليلًا منه على ملابسهم. ملأت رائحة العطور التى تميل إلى الذكورية المكان. وقف كثير منهم عندما سمعوا الخطوات فوق الدرج متأهبين لاستقباله، وعيونهم تراقب باب السطح، والبقية هبوا سريعًا عندما شاهدوا حراسه الشخصيين يدخلون مسرعين قبله إلى الشرفة. ظهر البغدادى وراءهم وحيا الحضور بصوت مسموع:

- السلام على من اتبع الهدى.

أجابه الجميع بصوت واحد:

- حفظ الله خليفتنا وإمامنا، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

كان يرتدى ذات الجلباب الأسود، الذى كان يرتديه عندما حضر صلاة الجمعة فى الجامع النورى فى الموصل القديمة، والذى لا يبعد عن هذا البيت بأكثر من ٢ كم، ومن هناك كان قد أعلن دولة الخلافة، وهو خبر تلقفته وسائل الإعلام فى كل بقاع العالم.

سار البغدادى بتؤدة مملوءًا بالثقة وجلس فى مكانه، بينما كانت عيون الحاضرين تتابع حركاته وسكناته. جلس واعتدل فى جلسته، ثم سمح لهم بالجلوس بإشارة من يده، وطافت عيناه بجولة فى وجوه الحضور، عيناه وأطرافه تشع بالسيطرة، وهو أمر ليس بالغريب، خصوصًا بعد سنوات طويلة من الهيمنة والسلطة التى حصل عليها من نشر الإرهاب فى بقاع الأرض. همهم مرتين وتحدث إلى أبى ياسر، الذى كان جالسًا بجانبه على الطرف الثانى من الأريكة، وطلب منه أن يجلس بجانبه فى المقعد الأوسط الخالى قريبًا منه، تحدثا مع بعضهما بعضًا، بحيث لم يتمكن الحاضرون من سماع ما يقولانه. كانت تلك إشارة للجميع تدل على أن أبا ياسر كان ذا حظوة عند الخليفة. بعد قليل نهض البغدادى نصف نهضة، وعدل جلبابه وجلس ثانية، كانت حركة كافية لسحب الانتباه إليه. تركزت عيون الموجودين على خليفتهم وهو يقول:

- فى هذا اليوم سنحتفل معًا بعون الله بإنجاز عظيم، والأصح قولًا أنه نصر عظيم، هذا أمر لم يتمكن أحد قبلنا من فعله.

ضجت الشرفة بالتكبير، واهتزت قبضة يد هنا وأخرى من هناك فى الهواء. واصل كلامه بالكبرياء نفسها: «سنشاهد أولًا مع بعضنا بعضًا برنامجًا»، وأشار بيده إلى الشاشة الكبيرة، فالتفتوا جميعًا إليها مستغربين.

من رواية «رقصة داكنة»

تأليف وترجمة محمد المفتى - النرويج